عزيزى القارئ ما رأيك أن نهرب اليوم معًا إلى بساتين الإبداع والأدب؟ سأفترض أنك وافقت.. بيد أن موجبات الاستقامة وأصول الأخلاق الحميدة تفرض على العبد لله مصارحتك بأن حكاية الأدب التى انتخبتها لحضرتك ستبدو لك مستوحاة مما نعيشه هذه الأيام.. طبعا ليس كل ما نعيشه فنحن نكابد مهرجانا فوضويا هائلا ومتنوعا ما بين المأساة والمسخرة ولا تكاد تكفيه ألف حكاية. فأما المسخرة المأساوية التى دفعتنى إلى الهرب إلى عوالم القصّ، فهى ما يتحفنا به سرب «الصراصير البيضاء» البائسة المقرفة السارحة حاليا على سطح حياتنا، مستظلة ومستقوية ب«جماعة الشر» التى زين لها الجهل وظلام العقل، أنها تستطيع «نشل» هذا الوطن دولة وشعبا ومجتمعا.. هذا السرب الواطى المنافق يريد، من فرط غباوته، أن يقنعنا بأنه «حليف» للجماعة بينما القاصى والدانى يعرف حقيقة أنه مجرد مكرى ومأجور للخدمة ومسح البلاط فحسب، غير أن حزق ومعافرة بعض الصراصير لإقناعنا بأنهم فى علاقة تحالف سياسى مع الست «الشريرة» المذكورة جعل منظرهم المزرى والمثير للقىء، يبدو مضحكا جدا أيضا، لكنه ضحك أَمَرّ من البكاء. والبكاء الموجود فى الحكاية التى ستقرؤها حالا، هو بكاء ندم لا يفيد ولا ينفع عندما يأتى وقت الحساب ويحل دفع ثمن «التحالف» مع الشيطان.. ففى واحدة من أشهر حكايات الأدب الغربى الحديث والمعاصر، فإن طبيبا (أو مشعوذا) يُدعَى «فاوست» أبرم عقدا مع الشيطان «مفيستو فاليس» بمقتضاه قايض الأول وباع روحه للثانى مقابل أن يمنحه قدرات خارقة للطبيعة تمكِّن هذا المشعوذ من تحقيق أطماعه وإشباع ملذاته. هذه القصة التى صارت فكرة محورية عالجْتها وتناولتْها مئات الأعمال الإبداعية فى الغرب وعبرت الحدود بين أنواع وأجناس الفنون المختلفة من الرواية والمسرحية والشعر إلى الموسيقى والأوبرا، يقال إن لها أصلا تاريخيا حقيقيا تجسده سيرة شخص أفّاق عاش قبل قرون فى إحدى المقاطعات الألمانية، لكن الحكاية تأسطرت (أصبحت أسطورة) بمرور الزمن وحوّرتها وتناقلتها الروايات الشعبية قبل أن يستلهم منها مبدعون وفنانون كبار أعمالا حلّق بعضها فى أعلى سماوات الروعة، مثل مسرحية «فاوست» التى تعَدّ أجمل وأشهر أعمال الشاعر الألمانى الأكبر يوهان فولفجانج جوتة.. فإلى ملخص مكثّف (ومخل تماما) لقصة الحِلْف مع الشيطان كما رسمها «جوتة» شعرا فى مسرحيته: يبدأ خط الدراما فى المسرحية صعوده عندما يكون الدكتور فاوست فى معمله يحاول الخلاص من حياته بالانتحار بعدما بلغ قمة القنوط واليأس، غير أن الشيطان يدركه قبل أن يتناول السم ويموت ويعرض عليه المساعدة فى إنهاء كل الهموم وتزويده بما يريد من قوة وقدرة وشباب مقابل أن يتنازل له عن روحه، وإذ يقبل فاوست عرض مفيستو ويوقِّع على بنود عقد الاتفاق بنقطة من دمه، يشرع الشيطان فى تنفيذ الغوايات التى أوقعه بها فيخلصه على الفور من مظاهر الشيخوخة ويرده شابا فتيًّا وسيمًا. يغترّ الدكتور فاوست بشبابه وفتوته الشيطانية ويندفع فى طريق الملذات إلى أن تقع فى طريقه ذات يوم فتاة بتول طاهرة تدعَى مارجريت فيعرض عليها أن تبادله العشق والحب لكنها تأبى وتبدى نفورا منه، فيستعين بشيطانه مفيستو الذى يبدى له فى البداية تمنّعه عن أداء هذه الخدمة متعللا بطُهر الفتاة وورعها غير أن فاوست يهدده بفسخ العقد فيقوم الشيطان بكل ما يلزم لإغواء الفتاة وينجح كيده بعدما أوعز لحليفه المغرم أن يرسل إلى معشوقته صندوقا مملوءًا بحلىّ وجواهر جعلها تلين فعلا، بيد أن أمها تشم فى الهدية الثمينة رائحة الحرام وتستدعى قسيسا من الكنيسة يؤكد هذا المعنى ويقرر أن يصادر الصندوق لصالح الكنيسة قائلا: «بإمكان الكنيسة وحدها أن تهضم الحرام»!! يحاول مفيستو من جديد إنجاز المهمة واستمالة مارجريت، ويضطر إلى اللجوء إلى الساحرة الشريرة جارة الفتاة، وتنجح هذه الأخيرة فى الجمع بين فاوست ومحبوبته ويتبادلان الاعتراف بالعشق، وتصل الغواية والإثارة بمارجريت إلى حد أن تدس لأمها عقارا منومًا لكى يخلو لها الجو ويدخل العشيق إلى مخدعها حيث يقع المحظور وتحمل منه سفاحًا. يتسرب خبر ما جرى للفتاة العذراء إلى مسامع شقيقها «فالنتين» الذى يندفع للثأر من فاوست داعيا إياه لمبارزة بالسيف، هنا يتدخل الشيطان لصالح حليفه فيشل يد الشاب مما يمكن فاوست من هزيمته وقتله.. وتتحول حياة مارجريت إلى جحيم فأمها ماتت بسبب جرعة العقار المنوم الذى دسته لها، كما أن أخاها مات على يد عشيقها، وقد اضطرت إلى قتل وليدها الذى حملت به سفاحا.. أما فاوست فقد صار هو الآخر أتعس كائنات الدنيا وهو الذى كان يظن أن حلفه مع الشيطان سيمكّنه من سعادة أبدية.