1- من ملاعب الكرة إلى ملاعب الثورة كتب - علاء خالد: فى اعتصام ألتراس أهلاوى الأخير الذى أقيم فى شهر مارس الماضى أمام مجلس الشعب، حاولت أن أجرى بعض الحوارات مع المعتصمين هناك. قابلت أحدهم وكان يتحدث مع زميل له، تقدمت منه وعرّفت نفسى وسبب حضورى. كان رده السريع والحاسم أنه يجب على أن أتوجه أولا إلى أحد قادتهم، سمّاهم لى، والاستئذان منه فى إجراء الحوار. كان هذا القائد يلقى خطبة على جمهوره. خطبة حماسية وأكف ترتفع وأصابع تهتز كأوتار جيتار إسبانى، وهمهمات جماعية تصاحب الأصابع المشدودة كأنك فى جلسة تنويم مغناطيسى، ثم حناجر تنشد على إيقاع عفوى. ربما لا أميز كلمات هذا النشيد، لكن إيقاعه مسترسل وسلس كأنهم يغنون، مثل سيد درويش، كلام الجرائد. انتظرت قائدهم حتى يفرغ من خطبته التى يتخللها الغناء والصيحات. استأذنته فى الحديث معه حول هذه الظاهرة. كان محاطًا بمجموعة من زملائه ينتظرون منه التعليمات، وكان هناك أيضا رجل جاء يشكو له أحد أقاربه الصغار الذى انضم إلى الاعتصام وأهمل دروسه فأرسلته والدته ليشكوه أمام قائده. فما كان من القائد أن أخذ اسمه ووعده بعودته للبيت فورا. «تحت العشرين» السن الغالبة على الاعتصام. كان القائد مبتسما على الدوام، ولم يتذمر من الطلبات والأسئلة التى ترف من حوله. طبعا لم تتح لى الفرصة للحديث معه، لكنه رشح لى أحد المساعدين. كان هذا المساعد فى الواحد والعشرين من عمره. فى أثناء حديثى معه، على أحد أرصفة الاعتصام، مر بنا الكثيرون من الصغار ليستأذنوا بالانصراف أو للاستفسار عن جدول الغد. نظام قوى للطاعة والاحترام المتبادل. الطاعة التى تدرجت من حب الكرة، لحب الجماعة، لحب التغيير. تنظيم تراتبى مبهر، لكن كيف نشأ فى مجتمع متهتك الأوصال ومفكك؟ ربما فورة السن، واكتشاف تلك الروابط السحرية بين الجماعة، والانتصار فى الملاعب، ورغبة فى الإنقاذ بمعاكسة المجتمع وخرابه بحالة جماعية لها هدف واضح. وهو ما كان يفتقده المجتمع، لكن عندما تحقق بالثورة كان من الطبيعى أن تنتقل تلك الجموع إلى أرض مواجهتها الحقيقية، من ملاعب الكرة إلى ملاعب الثورة، بنفس تكتيكاتها، لكن لهدف أوسع وأشمل. وهو ما أخرج إمكانات كانت كامنة، فى هذا التكوين السحرى، نظرا إلى اختلاف الهدف والمسعى. نظام له خشونة عسكرية، لكن له أيضا مركز عاطفى: هذا الذى يقف فى بؤرة الجموع محمولًا على الأكتاف، يفتح صدره ويفرد ذراعيه على اتساعهما ليحوط بهتافه الجميع، وهو يتنقل على أكتاف صفوف تتحرك، بعكس اتجاه المسيرة، لكى يراهم ويروه. قوافل شابة تخرج من كل الأحياء الفقيرة والغنية. الكل يذوب داخل المدرج. وكأى مجتمع منظم يكتشف عداءه الفطرى للسلطة. يشمون رائحتها من بعيد، وينفرون منها ويتعقبونها ككلاب مدربة على اكتشاف الجريمة. هذا العداء وهذا التنظيم وهذا الحب هو الذى قادهم بتلقائية إلى الثورة. بمعاداتهم للسلطة امتلكوا أحد مقوماتها وهى الاصطفاف، لكن مع شىء من الحرية والخطوات السريعة وغير المحسوبة، أو مع شىء من الفوضى المحسوبة، حتى لا يقعوا فى تكرار نموذج من يعادونه. ذهبوا إلى شوارع الثورة ليكتشفوا مكانًا آخر للحب أو للعنف أو للتعبير. استبدلوا الشارع بالمستطيل الأخضر، الذى يلعب فيه شعب بأكمله. هذه العاطفة القوية، والمشحونة، أعادت رسم حدود الوطن والجماعة، حتى ولو كانت بطريقة خشنة أو فجة أو سوقية. كلها علامات الاستيقاظ من نوم طويل، تكون غير مدرك للأصوات التى تخرج منك، وللكلام الذى تهذى به. استيقاظ خشن، تقوم منه لتصرخ. أصبح الشارع جزءًا من نشاطهم اليومى بعد أن فقدوا الملاعب. فى كل لحظة لا بد من أن يؤدوا عرضًا ما، يخترقوا حاجزا ما، يكسروا تقليدا ما. إنه انفجار فى مراحله الأولى، ولم يتمدد بعد. وسيقابل فى طريقه كل ما يطيل فى أمده، وفى أمد المجموعة والظاهرة. المدرجات كانت بروفة لتنافسِ أكبر ومراهنة أكبر على الحياة نفسها، وهو ما حدث بالفعل، أو على الأقل على إزاحة أشكال زائفة من الوعى بالنسبة إليهم. ليس استيلاد الهدف، فقط، هو الذى يطيل الأمد لهذه الظاهرة، ولا استمرار فكرة التنافس فى الكرة، ولكن ربما لاكتشافهم هذا المركب السحرى الجماعى الذى سيأخذ زمنا طويلا حتى تخمد تفاعلاته. وسيأخذ أكثر من قناع وهدف حتى يستقر. سن متفجرة، ولحظة مجتمعية فارغة من كل شىء، ثم جاءت الثورة لتضع حول هذه اللحظة الفارغة إطارا موحيا ومرشدا، فتمسكوا بها حتى النهاية. ولكن يظل السؤال، بعد الثورة هل ستعود هذه الجموع وتقنع بملاعب تتحرك فيها فرق متنافسة ونجوم وخطط ومدربون؟ أم أنهم سيشعرون ساعتها أنهم أمام ملعب وهمى وافتراضى مثل ألعاب البلاى استيشن؟ لقد غامروا للخروج للمستطيل الواسع، ولن يقنعهم بعد الآن المستطيل الأخضر الصغير. لقد كسروا أحد مثيرات الأحلام وصناعة البطولة المتمثلة فى كرة القدم. 2- عفريت الثورة الطيب كتب- محمد فرج: هم يشبهون جنود الرب الخفيين الذين يظهرون وقت الشدائد، أو بمعنى أدق عندما يرغبون فى المساعدة، ساعتها تنقلب موازين المعركة، أو على الأقل تتغير الحسابات لصالح الطرف الذى انضموا إليه. عندما سمعت للمرة الأولى عن «الألتراس» قبل الثورة بما يقرب من عام ونصف، دهشت لدقة هذا التنظيم، عديم الرؤوس، وحش ضخم، يلعب فى مباريات الكرة وقتما يشاء، ويلعب ألعابا مجنونة مدهشة بها الكثير من الإبداع الذى لم يكن أحد يتصور وجوده فى بلادنا الخاملة.. مرة أطفؤوا أنوار الإستاد لدقيقة فى أثناء المبارة كى يكتبوا بصواريخهم اسم النادى الذى قرروا الانتماء إليه. هكذا يتحركون بنظام غريب وبأعداد هائلة وهتافات واحدة يزلزلون المكان الذى يرغبون. عندما سمعت عن الألتراس رحت أتخيل ماذا لو انخرط هذا الوحش الضخم عديم الرأس فى العمل السياسى، كيف ستكون الأوضاع؟ كيف ستكون شكل المظاهرة التى ينظمها مثل هذه المجموعات التى لا أعرف كيف تحقق هذه الدرجة من الاتصال والترتيب والتنظيم؟ لكن لأن الألتراس لا يتحركون بأمنيات أحد وبل وقتما يشاؤون، تأخرت هذه الأمنية حتى قامت الثورة التى كسرت الغطاء المتقيح الذى كبس على البلاد، لينفجر الجميع، ويقرر عفريت الثورة الدخول إلى المعركة. لا ينتمى الألتراس إلى فريق الكرة بقدر ما ينتمون إلى فكرة الانتماء فى حد ذاتها، وإلى فكرة الاستمتاع بالانتماء. كيان شاب يريد أن يلعب ولا يريد أن يقف أحد فى مواجهة لعبه. ولحسن حظنا وقفت الشرطة فى وجه رغبة العفريت فى اللعب، فلعب معها العفريت، ومسخرها تماما، أمام أعين الجميع. شتمها وألف الأغانى الساخرة عليها، وجرى من أمامها فى الشوارع الضيقة، وفجر شماريخه فى السماء ليعلن رغبة المتعة فى الانتصار. وعندما أرادت الشرطة الانتقام انتقمت بخسة فى استاد بورسعيد ليصبح الدم علامة عار لن تمحى بسهولة من على رأس الشرطة، ولن ينساها العفريت الطيب. البذاءة التى يتهم بها الكثير الألتراس لا تهمهم، لكنها تخص الأعداء. هم الذين يشعرون بالسبة، بينما العفريت الطيب يعرى الأشياء والحقائق كالطفل الذى أشار على عرى السلطان بعبث برىء. ينتقدهم الكثيرون، بينما هم يواصلون لعبهم. أخلاق العفريت ليست نفاقًا ولا تسلطًا ولا تزلفًا. كلمات الألتراس «البذئية» تفضح «أدب» السلطة الدموى الذى يتجلى فقط فى استعباد الجميع. الألتراس بعد الثورة حصان أسود يتمنى الجميع أن يمتطيه لأنه يعرف أنه يمكنه الفوز بهذا الحصان. لكنه حصان برى يصعب امتطاؤه بغير رضاه، هو يجرى فقط عندما يريد، وفى الاتجاه الذى يرغبه، كما فى الحكايات، العفريت الطيب هو الذى يقرر الظهور، ولا يمكن لأى من شخصيات الحكاية أن يستدعيه، لكنه يختار الجانب الذى يضمن له المتعة والحرية. 3- طبول الثورة كتب- بلال حسنى: كان ذلك فى صباح يوم 28 يناير عام 2011 فى شارع بورسعيد بالإسكندرية. خرجنا أسرابا متفرقة. قبلها بثوان، كان الشارع على مدد الشوف لا يوجد به صريخ ابن يومين. كل تلك الأزقة أمامى تفضى إلى البحر، من أحدها خرج شاب يعلق طبلة حول رقبته يطرقها وهو يدب الأرض بقدميه، ثم فاض من خلفه بركان بشرى، وكان هذا الشاب من الألتراس. تزامن مع عهد مبارك وتحديدا عام 1982 فوز النادى الأهلى لأول مرة ببطولة إفريقية، ومنذ ذلك الحين عهد النظام على استخدام كرة القدم لإلهاء الشعب وللتغطية على الفساد، ولم يكن يدرك أن إحدى دعامات سقوطه ستأتى من جماعات صفوف المشجعين، من الألتراس تلك الحركة الاجتماعية التى ستظهر عام 2007، حيث ستتشكل أول مجموعة فى الإسكندرية، ريد ديفلز، الشياطين الحمر، لا لكى تناضل سياسيا مثل حركة كفاية أو6 أبريل، إنما ظهرت كامتداد عالمى لظاهرة الألتراس. كان الألتراس نقلة نوعية لجماهير كرة القدم، بعقيدة لها مبادئ وعقلية لا يتوقف تشجيعها وغناؤها ودعمها لفريقها طوال المباراة، ومهما كانت النتيجة. لقد ولدت صلبة ومنظمة. هذه العقيدة الاجتماعية ستصبح فى حالة صدام دائم مع العقيدة القتالية للنظام متمثلة فى الأمن المركزى. حدث ذلك لأول مرة حينما تحولت مدرجات استاد القاهرة عام 2008 لساحة منددة بالعدوان الإسرائيلى على غزة، وعلى امتداد السنوات التالية تكونت العلاقة العدائية. مُنع دخول اللافتات والشماريخ، ووصل إلى حد المطاردات والاعتقالات، وظهر جليا تخوف النظام من الإرادة الحرة التى يتمتعون بها. قبيل الدعوة للثورة ظهر فيديو على «اليوتيوب» يحث فيه المصريين على النزول إلى الشوارع ويطمئنهم أن الألتراس سيقوم بحمايتهم. الكثيرون وقتها أدركوا أن مشاركتهم تعنى وجود فصيل اجتماعى لديه خبرة بتكتيكات الأمن المركزى، التى لا يخافها، وقد انكسرت لديه الرهبة من بطشها. حتى إن صفحة خالد سعيد أعلنت ذلك كنوع من الاطمئنان، وأن للثورة ألتراس يحميها. تلا ذلك نضال ألتراسى طويل. حتى حدثت خيانة مدبرة ضدهم فى مذبحة استاد بورسعيد. وبعيدا عن تفاصيلها القاسية، كان جليا أن أجهزة الأمن تخاذلت فى الدفاع عنهم. استغرق الألتراس وقتا لكى يتكشف له أن بورسعيد بريئة من دمائهم. فى هذا الوقت الاستثنائى للحزن شاهدت شابا يكتب بكف مهتز على الجدران بطول شارع بورسعيد اسم «الغندور»، الشهيد السكندرى جراء المذبحة. شعرت أنه كان يحاول عبثا خدش جلد مدينة ابتلعت فى باطنها شبابا ذهب ليشجع فعاد فى نعش. تتبعته وهو يكتب، تفلت منه الحروف وتتشابك فتصبح دوائر لمتاهات من الغضب والضعف، حتى أرهق معصمه، وسقط منكبا فى أحد الأزقة، يبكى ضاربا بكفه المنهك على الحائط. كنت أعرفه، فقد كان ضمن مجموعة من الشباب الذين يخرجون ليلا ليرسموا على الجدران شعارات فريقهم، ثم تستيقظ المدينة على رسوماتهم الشيطانية الجميلة. فى ما بعد ستصبح إحدى مقولات مصطفى متولى طالب الثانوى ضحية تلك المذبحة تملأ صخور الكورنيش «يوم ما أبطل أشجع هاكون ميت أكيد». لم تكن تلك هى النهاية، لم تكن إلا كسرة لشوكة سرعان ما نبتت مجددا فى ظهر نظام باطش.