القرنبيط نبات يشبه المخ بطريقة مذهلة. لكل فرع من فروع القرنبيطة رأس متجعدة السطح تشبه تلافيف المخ، وتنتهى بجذع يشبه الحبل الشوكى. إنه تطابق رهيب فى تفاصيله، لا يعيبه سوى أن القرنبيط لا يفكر إذا تم وضعه بدلا من المخ فى دماغ البشر! تعالوا معى لآخذكم فى جولة تاريخية ربما نعود منها بشىء مفيد. الفراعنة يا سادة كانوا أصحاب ديانات مبادئها بالغة الرقى، وعقوباتها بالغة الصرامة والتعقيد. قد يدهشكم أن مفكرًا عتيدًا مثل جيمس هنرى برستيد صاحب الكتاب الشهير «فجر الضمير» يقول عن مصر الفرعونية «كل شىء بدأ من هنا»، وإليكم بضعة أمثلة على ما يقول: أم حتشبسوت صاحبة الحكاية المرسومة على جدران معبد الدير البحرى، كانت هى الملكة التى ملأ الإله آمون رع بطنها بقبس من روحه عندما دخل مخدعها مع أشعة الشمس، عبر شُباكها المفتوح، بعد وفاة زوجها الفرعون، ليمنحها من صُلبه ولدًا بلا زواج لكى يرث عرش مصر! هل يذكرك هذا بشىء؟ إخناتون هو صاحب فكرة التوحيد التى رفعت الإله الواحد الجديد إلى منزلة غيبية تمنحه وجودًا فى كل الموجودات، تجعل الإنسان لا يدركه بالحواس، بل بضميره وفطرته اليقظة. هل يذكرك ذلك بشىء؟ تعقيد العقوبات الفرعونية وصرامتها بلغ حدًّا مهولًا لدرجة أن عقوبة جناية تلويث النيل كانت تتم على مَن تثبت إدانته بأن يتم حبسه لقضاء ليلة داخل بئر مغلقة تتصل بالنيل، عبر نفق فى معبد سوبك، التمساح حارس الإله حابى نهر العطاء. فى الصباح التالى يرفع الكهنة غطاء البئر، فإن وجدوا الرجل حيًّا، فهذا يعنى أن التمساح سوبك عفا عنه بأمر من حابى الذى غفر له. أما إن اختفى أو وجدوا بقاياه بعد أن تم التهامه، فهذا يعنى أن العقوبة قد تم تنفيذها. لا تنسوا من فضلكم أن التهام الجسد فى الحضارة الفرعونية يعنى عدم البعث. أى الحرمان من الحياة الأبدية وعدم دخول الجنة، بمعنى الحرمان من العودة مرة أخرى إلى مصر بوصفها هى الجنة! هذه القصة تلفت النظر بشدة إلى أن العقوبات ترتبط تمامًا بالواقع الزمانى المكانى، وليست لها علاقة بالمبادئ المجردة التى تحاول أن تسمو بها الديانات بأرواح البشر. لمزيد من الإيضاح، عندما انتقلت عبادة آمون إلى أثينا الإغريقية فى زمن الإسكندر لم يطبق معتنقوها قانون العقوبات الفرعونى، بل استمروا فى تطبيق القوانين الرومانية لاتساقها مع واقعهم المعرفى. هل يمكن أن يتم تطبيق عقوبة تلويث النهر دون وجود التمساح سوبك؟! أو دون وجود النهر ذاته؟! كان المنطقى أن يتم الاستمرار فى استخدام العقوبات التى تستمد من واقعهم الاجتماعى المعرفى وتناسبه. مثال آخر: الحدود الإسلامية كانت هى نفسها العقوبات الجاهلية. الإسلام لم يأتِ بعقوبات جديدة مغايرة للقوانين الجنائية فى عصره، بل استمدها من المعرفة الاجتماعية الزمانية والمكانية. للشيخ الحوينى حديث طريف خزعبلى على «يوتيوب» يثبت به رأينا من حيث لا يدرى، عندما يؤكد أن استخدام الرجم فى حد الزنى لم يكن شائعًا فى الجاهلية بين البشر فقط، بل إنه كان يطبق أيضًا بين القرود! هل يُخفى الخواجات هذه المعلومة ويمسحونها من أفلامهم الوثائقية فى الناشيونال جيوجرافيك؟! ما علينا، الدين إطار أخلاقى يُعلى من قيمة المبادئ فى كل زمان ومكان، بينما العقوبات يحددها الواقع المعرفى، بل وتتغير فى المجتمع الواحد تبعًا لتطور المعرفة. المسيحية لم تأتِ بقانون جديد للعقوبات. ليس فقط لأنها دين المحبة، ومَن ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر، ولكن الأهم لأن العقوبات الرومانية كانت تطبق وقتها، وكانت أكثر من كافية لضبط سلوكيات المجتمع. مثال آخر: عندما عرفت البشرية علم النفس أدركت أن جريمة السرقة لا يبررها ويسقط عقوبتها فقر السارق فقط، وحاجته إلى الطعام التى لم يوفرها له المجتمع، وهو مبدأ إسلامى بالمناسبة، بل أصبحت تصنفها أيضًا كعاهة أخلاقية سلوكية، عندما تُرتكب تحت وطأة مرض مثل داء السرقة «الكليبتومانيا»، الذى يمارسه أغنياء مرضى، يختلفون فى دوافعهم عن لصوص آخرين يسرقون المجتمع، ويحصلون على الرشاوى والأراضى والعمولات التى، ويا للمفارقة، لا يُعاقَب عليها بحد قطع اليد، لأنه يتطلب التلبس بسرقة منقول يوضع فى الجيب! هل يصح بعد تلك المعرفة العلمية الطبية أن نضيف عاهة جسدية لفرد يعانى فى الأساس من عاهة نفسية؟ لنزيد من تشوهاته الذهنية، ونسبب له إعاقة دائمة فى حين أن الواجب يقتضى علينا أن نقوم بعلاجه؟ هل يُعقل أن نقطع يد مريض بداء سرقة الأشياء التافهة، تحت وطأة دافع نفسى قهرى لا شفاء منه إلا بعلاج طويل الأمد، ونترك ناهب الوطن وسارق أراضيه لاستحالة أن يطويها ويضعها فى جيبه؟! أظن أن هذه الجولة المعرفية فى التاريخ القديم تشرح لنا الفارق الواضح بين أنصار الاحتكام إلى مبادئ الشريعة، ودعاة تطبيق أحكامها. الأدهى والأمر أن هناك من يقاتلون باستماتة لتطبيق كل المنظومة المعرفية القديمة ليس بأحكامها فقط، ولكن أيضًا بعاداتها! زواج الصغيرات قبل البلوغ، والتداوى ببول الإبل، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إرضاع الكبير، وتناول لحوم الجن! معرفة العصر التى تصنعها علومه يا بشر هى التى تحدد طبه واقتصاده وقوانينه التى تستظل كلها بمبادئ الأديان السامية، ولا تحيد عنها قيد أنملة، وهذا تحديدًا ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان فى رحلة السعى نحو عدل يحقق سعادة البشرية. العدل الوهمى الذى يريدون تحقيقه دون استخدام معرفة العصر وعلومه، هو عدل يصنعه جهلاء يصفق لهم جهلاء بأدمغتهم عقول من القرنبيط!