هل يعيد رجب طيب أردوجان إلينا بطلنا العظيم بعد طول غياب؟ أما آن لأبى الأحرار أن يعود من منفاه ويعانق جثمانه تراب وطنه؟ أما آن لملهم الثورات العربية أن تستريح روحه الهائمة بعيدا عن الأرض التى أحبها وناضل من أجلها؟ أما آن لعبد الله النديم أن يعود إلى مصر من منفاه الطويل؟ كانت المهمة شبه مستحيلة، أن تبحث عن قبر عبد الله النديم فى مدينة كإسطنبول، يتجاوز عدد مقابرها التاريخية الرسمية المئتى مقبرة، لكن علىّ أن أسعى وليس علىّ أن أدرك النجاح، فهذا هو الوقت المناسب لهذه المهمة، وقعت فى غرام تركيا منذ زرتها قبل سبع سنوات، وكنت كلما زرتها أضع مهمة زيارة قبر عبد الله النديم على قائمة أولوياتى، فقد كنت أتخيل أن له مدفنا معروفا هناك، بل وربما كان له مزار أيضا كغيره من الكتاب الكبار العرب والأجانب، الذين كانت إسطنبول منفى اختياريا أو إجباريا لهم، وما أكثرهم! لم أكن أظن أن السلطان عبد الحميد كان سيضن على عبد الله النديم بضريح خاص يكرمه فيه، فما تقوله كل المراجع أن النديم عندما توفى مريضا بالسل، أو مريضا بغربته عن مصر فى ليلة الأحد العاشر من أكتوبر سنة 1896 أمر السلطان عبد الحميد بأن تجرى له جنازة رسمية على نفقة السلطان، لتكتمل مفارقات حياته المضحكة المبكية بأن تسير أمام نعش الصعلوك الثائر بطل الغلابة وعدو الشرطة وطريد العسس والمخبرين فرقتان من الجيش وفرقة من الشرطة وطلبة المكتب السلطانى وكبارات إسطنبول الذين لم يسلموا من لسانه وقلمه، لكنهم جاؤوا لتشييعه تملقا للسلطان، ليسيروا جنبا إلى جنب مع أستاذه وصديقه الثائر العظيم جمال الدين الأفغانى. كنت أتصور أننى لو سألت أى متخصص فى التاريخ عن موضع قبره سأستطيع الاهتداء إليه بسهولة، ودائما كنت أفشل فى ذلك، وأجد أن كل من أردد له اسمه يسمعه للمرة الأولى. لم أكن حتى وقت قريب من عشاق إسطنبول، كنت لا أزورها إلا لماما، فلم أكن قد اهتديت بعد إلى مدخل حبها -وللمدن مداخل إذا لم تهتد إليها ظللتَ غريبا عنها- ولم أكن أتصور أن النديم سيكون مدخلى للوقوع فى غرامها، كانت دائما المكان الذى أعبر عليه إلى أماكن أخرى أحبها، لكننى هذه المرة قررت أن أستقر بها فترة أطول مما تعودت عليه، لكى أبحث عن النديم، شعرت أن الوقت قد حان لكى يعود من منفاه بعد أن شهدت مصر أخيرا ثورتها الشعبية العظيمة التى دعا إليها النديم وغيره من الآباء العظام، عدت إلى ما توفر لدى من مراجع عنه لكى أتتبع أيامه الأخيرة فى إسطنبول لعلى أجد خيطا يوصلنى إلى مكان مقبرته، صدمتنى فقرات قرأتها فى واحد من أقدم وأجمل الكتب التى كُتبت عن النديم، وهو كتاب (عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية) للأستاذ نجيب توفيق، حيث قال «ومما يُؤسَف له أنه لم يُعرف قبره إلى اليوم ولم يفكر أحد فى الذهاب إلى تركيا للتنقيب عن قبره لتحديد مكانه وإقامة شاهد عليه، ولو كان تم ذلك، لكان من السهل فى العهد الحاضر بعد ثورة الجيش العظيمة أن ينقل جثمانه إلى وطنه، ويكرم ذكره ويحاط بكل مظاهر الإجلال والاعتبار التى تليق بتاريخ جهاده المجيد» عندما تعرف أن الكتاب صدر فى عام 1954 وتدرك أن عبد الله النديم ما زال -بعد كل هذه السنين من ثورة الجيش- منفيا فى إسطنبول، ستعرف كم هى منكوبة بلادنا التى رزقها الله حكاما يطلقون أسماء أصدقائهم من الضباط على أكبر شوارعها دون أن يكون لهم عشر معشار ما قام به النديم من نضال دفع ثمنه غاليا، ومع ذلك فقد استكثرت عليه بلاده أن يدفن فى ترابها، ويكون له فيها متحف يروى قصة كفاحه للأجيال التى دجنوها وخدعوها، فأصبح حتى بعض نشطائها السياسيين يعتقد أن شعبه شعب خانع، لم يَثُرْ ضد الظلم ولم ينتفض ضد القهر. لكن إذا كانت ثورة الجيش قد تجاهلت عبد الله النديم ثائر الشعب، واكتفت بعمل تمثال له فى حديقة الخالدين بالإسكندرية، مسقط رأسه ومرتع شبابه، فقد وجب على ثورة الشعب -وهى تكرم أبطالها- أن تعيد الاعتبار لكل آباء الثورة الشعبية من مثقفين وعمال وفلاحين وطلبة، وما أكثرهم وما أجمل قصصهم الملهمة فى تاريخنا المجيد!! ولا ينبغى أن يسبق اسم فى قائمة المكرمين اسم عبد الله النديم، ذلك الثائر الذى تصلح قصته -فى حد ذاتها- لكى تكون أكبر تكريم للشعب المصرى وأبلغ رد على كل ما يلصق به من اتهامات من بعض مثقفيه المحبطين، هذا الشعب الذى عشق النديم فخبأه فى أحضان حواريه وقراه تسع سنين كاملة، رغم أن السلطات كانت قد رصدت -بإيعاز من الاحتلال الإنجليزى- مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عنه، وكان ذلك المبلغ وقتها كافيا لتغيير مصير حى بأكمله، لكن فقراء المصريين كانوا يعرفون قيمة بطلهم النديم الذى كان خطيبهم وكاتبهم وشاعرهم وممثلهم ومضحكهم ومبكِّتهم فشالوه فى أعينهم، بعيدا عن أعين العسس إلى أن سقط فى النهاية على يد شرطى حقود. ومع مرور السنين لم تنس الأجيال الجديدة فضل النديم وعطاءه وكفاحه، سأكتفى بالتدليل على ذلك بمثال مشرف للغاية، إذا دخلت على «الفيسبوك» ستجد جروبا أنشأه مجموعة من الشباب يطالبون بإعادة رفات النديم إلى مصر يحمل عنوان (بصوتك عبد الله النديم يعود للوطن) وقد وضعوا لجروبهم شعارا يقول: (لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب بعودة رفات عبد الله النديم؟!) لا تحزن إذا عرفت أن أعضاء الجروب يبلغ عددهم -فقط- ألفا و530 عضوا، وهو عدد مخجل إذا قارنته بجروبات السماجة والتلزيق المنتشرة فى جنبات «الفيسبوك» لكن من قال إن ذلك معناه أن النديم سيعدم آلافا من عارفى قيمته وفضله سيضمون صوتهم إلى أصوات المطالبين بعودة رفاته إلى مصر، اللوم كل اللوم على الإعلام الذى يجرى وراء أتفه الجروبات ليسلط عليها الضوء.. هه! ما علينا، لجأت إلى التواصل مع أحد مؤسسى الجروب المؤرخ المتميز الدكتور عمرو منير لكى أخبره بما أنتويته من بحث عن قبر النديم، فأعطانى طرف خيط كنت أحتاج إليه بشدة، لتبدأ رحلتى فى البحث عن قبر عبد الله النديم، تلك الرحلة التى نحتاج إلى نَفَسك معنا أيًّا كان موقعك، وبقدر ما تستطيع، لكى تكتمل بعودة عبد الله النديم إلى مصر. وإلى الغد بإذن الله إذا عشنا وكان لنا نشر.