إذن فقد جاءتنى الفرصة على طبق من ذهب لكى أحسم موضوع استعادة رفات إمام الثائرين مولانا عبد الله النديم، هكذا قلت وأنا أنظر إلى بطاقة الدعوة التى جاءتنى لحفل عشاء مع رجب طيب أردوجان، تشعر من صيغة الدعوة أنكما ستتعشيان سويا برفقة عدد من أصدقائكما المشتركين، لن يكون مناسبا أن أفتح موضوع الرفات قبل العشاء أو فى أثنائه، سأحكى له أولا عن ذكرياتى فى تركيا، بادئا بزيارتى لمسقط رأسه بلدة ريزه الخلابة المطلة على البحر الأسود، ثم سأحكى له عن مشاعر أصدقائى الأتراك المنتمين إلى أحزاب المعارضة تجاهه، وكيف تدور بيننا مشاحنات أتهمهم فيها بنكران الجميل لأنهم استفادوا جميعا من قرارات تاريخية قام بها حزبه وغيرت وجه الحياة فى تركيا، أما موضوع رفات النديم سأنتظر بعد نزول الحلو، ولن أتوقف عن الكلام فيه إلا بعد صدور قرار وزارى بنقل الرفات فى احتفالات تليق بالنديم ومعناه وبهذه اللحظة التاريخية التى لم تعد مصر مكانا يهرب إليه الفارون من بطش الخلافة العثمانية، ولم تعد تركيا مكانا يهرب إليه الفارون من بطش الاحتلال الإنجليزى، بل صار لديهما فرصة حقيقية أن يغيرا وجه الشرق إلى الأبد. عندما وصلت إلى قاعة العشاء وجدت أنها تتسع لأكثر من ألفى فرد، فانهارت أحلامى، على باب القاعة، نظر إلىّ أفراد الأمن بارتياب، فقد كنت الوحيد الذى يرتدى تيشيرت وبنطلونا وسط غابة من البدل، ظهورك فى التليفزيون يفرق معك فى مواقف كهذه لحسن الحظ، وجدت الكاتب العظيم الدكتور محمد المخزنجى أمامى، فأدركت أن الخروجة جابت همها وزيادة، قبل قليل كان أقصى أحلامى ينحصر فى الوصول إلى الميكروفون لطرح موضوع رفات النديم على أردوجان، والآن عوضنى الله بصحبة المخزنجى عن خيبة أملى فى طبيعة العشاء الأردوجانى، منح الله المخزنجى الكثير، معرفة عميقة وذكاء عاطفيا آسرا وخفة ظل مبهجة وقدرة على الإدهاش فى تأملاته، ومنحنى فقط قدرة على استفزاز مكامن العبث بداخله كلما التقينا، جلسنا إلى مائدة نستطيع فيها من بعيد رؤية أردوجان وهو يتحدث، كانت الموائد المواجهة له قد احتلها خليط من الرموز الثورية المشرقة وعدد من رجال أعمال عصر مبارك فى طبعتهم الثورية غير المقنعة وعدد لا بأس به من الفلول الذين انبعثوا بكل مهارة من رماد الحزب الوطنى المحترق، لم نشعر بالوقت، رغم تأخر أردوجان الطويل، من الصعب أن تشعر بالملل على مائدة تضم الدكتور المخزنجى والدكتورة منار الشوربجى والأستاذ الكبير فهمى هويدى والدكتورة أهداف سويف والأستاذة أنيسة حسونة والدكتور نبيل عبد الفتاح والأستاذ سمير مرقص والدكتور عمرو الشوبكى، كان بديهيا أن نتحدث عن موضوع الساعة الذى يشغل الجميع، هل نتفاءل باقتراب الانتخابات أم نتشاءم ونودع حلمها بعد تفعيل حالة الطوارئ، الغالبية متفقون على أن موضوع إلغاء الانتخابات أو حتى تأجيلها لأجل بعيد أمر لا مكان له سوى فى هواجس المتشائمين، لأن العبث بملف الانتخابات أمر لن يستطيع أحد تسديد فاتورته الباهظة، وأقصى ما يمكن أن نشهده هو مناورات ومماحكات حول مواعيد الانتخابات وتفاصيل الرقابة عليها، شخصيا ما يقلقنى هو أن تسهم بعض القوى الثورية فى تنفيذ مخطط جرها لتصعيد يدخل البلاد فى حالة من عدم الاستقرار يستغلها هواة الاستبداد لتحويل إجهاض حلم الديمقراطية أو تأجيله إلى مطلب شعبى. عن نفسى وجدت فى زيارة أردوجان دافعا إضافيا للتفاؤل الجارف بمستقبل مصر خلال الأشهر المقبلة، فمن خلال معرفتى التى أظنها وثيقة بتركيا لا أعتقد أن رئيس وزراء دولة ديمقراطية بها مؤسسات سياسية واستخباراتية واقتصادية تؤدى واجبها بكفاءة يمكن أن يضيع وقتا ثمينا كهذا لكى يأتى لزيارة بلاد ليس لها مستقبل سيعود بالنفع على تركيا، صدقنى الدول التى تُحكم بصناديق الانتخابات لا تؤمن بالكلام المعسول عن العلاقات التاريخية والروابط الأخوية، بل تؤمن بالمصلحة أولا، لو لم يكن أردوجان متأكدا أن كل ليرة تم دفعها على هذه الزيارة ستعود إلى تركيا مليون ضعف، لم يكن سيأتى وهو يصطحب أهم وزراء حكومته ومئتين من كبار رجال الأعمال الذين يعيشون فى مجتمع ديمقراطى لا يُستدعى فيه رجال الأعمال بالتليفون لنيل شرف صحبة الرئيس وسماع نكاته السمجة، وهم يدعون الله أن لا تطق فى دماغه فيطلب زيادة نسبته هو وأولاده من أرباح شركاتهم. بالطبع لا ينبغى أن يكون التفاؤل قرينا للغفلة العبيطة عن تحديات المرحلة الصعبة التى نحن فيها، والتى نزيدها صعوبة كل ثانية بعناد المجلس العسكرى وتخبطه الغامض وبعدم قدرة القوى الثورية على التوحد وترتيب الأولويات بشكل يجبر المجلس على إعلان خارطة طريق واضحة ننهى بها هذه الفترة المعقربة من تاريخنا. صحيح أن أردوجان قال عند وصوله كلاما رائعا عن إيمانه بمستقبل مصر المشرق، لكنه قال أيضا كلاما دعانا إلى الخجل من أحزابنا السياسية التى تبحث عمن يرمى لها السلطة فى حجرها دون أن تبذل أدنى مجهود، هو لم يتحدث عن أحزابنا بالاسم، تحدث عن تجربة حزبه فى العمل وسط الشارع، وكيف تم تأسيسه بأسلوب علمى سليم، حيث تم عمل استطلاع رأى مبنى على أسس علمية صارمة فى 82 ولاية، شاملا مئات الآلاف من البشر، وتم سؤال الجميع عن تصوراتهم للحزب السياسى الذى يعتقدون أن تركيا تحتاجه الآن، بدءا من أهدافه وسياساته ووصولا إلى اسمه وشعاره، ووجد الاستطلاع أن أكثر كلمتين ترددتا فى حديث الآلاف من الأتراك هما العدالة والتنمية، فتم ترتيب الاسمين بحيث يتم أخذ الحرف الأول من كل كلمة ليتم تسمية الحزب (آك بارتى)، لم أكن أعرف أن أردوجان يجيد العربية إلى حد كبير، لأنه بعد أن قال هذه الجملة، نظر إلى المترجم ضاحكا، وقال له بالتركية «أتحداك أن تترجم المعنى الذى أقصده حرفيا»، ضحك الأتراك الموجودون فى القاعة، ولم نفهم إلا عندما بدأ المترجم يشرح كلام أردوجان الذى قال فيه إن تسمية الحزب الجديد حملت معنى سياسيا زلزل الشارع التركى، فاسم (آك) فى التركية يعنى الأبيض، هناك بنك تركى شهير يحمل نفس الاسم بالمناسبة، لكنه لا يعنى بياض اللون، بل يحيل إلى معنى النظافة، وهو معنى كانت الحياة السياسية التركية كانت قد افتقدته لعقود طويلة، يقول أردوجان: كان أبناء أعضاء البرلمانات التركية يخجلون من أن يقولوا لزملائهم فى الجامعة إن آباءهم أعضاء برلمان من شدة فسادهم، قال لى أستاذنا المخزنجى: هذا إذن الفرق بيننا وبينهم، أن أبناء أعضاء البرلمان الفسدة كانوا يقولون للجميع بكل فخر إنت مش عارف أنا ابن مين. قلت: لو كنت أترجم لأردوجان لقلت على لسانه: أيها المصريون لقد حان الوقت لكى تلتفوا حول حزب تؤسسونه على نضيف لكى ينسيكم أيام الحزب الوسخ الذى كان يحكمكم؟ ونكمل غدا بإذن الله. المصدر : جريده التحرير