إنها العقلية القديمة نفسها. إعلام حكومى يصرف من أموال الشعب ليقوم بمهمة واحدة فقط: ترويض الشعب. وحكومة مهمتها تسيير أعمال الشعب فتفشل وتصبح مهمتها الوحيدة: لوم الشعب. كيف تدفع الحكومة50 مليون جنيه فى احتفال للفلاحين مهمته الوحيدة: الحشد والهتاف للمجلس العسكرى، ليثبت كلام المشير أن 99٪ من الشعب المصرى يؤيدهم ومعهم وسيفديهم بالروح والدم. لماذا تستمر هذه العقلية؟ رغم أن صفوت الشريف عملها وفشلت؟ ورغم أن أسامة هيكل ليس أذكى ولا أكثر احترافا من الشريف وخليفته فى الملاعب أنس الفقى.. ورغم أن تليفزيون الحكومة لن يستطيع الحشد أو تكوين وعى قابل للترويض. تليفزيون الحكومة لا يفعل سوى تبرير موقف الاستسلام للأمر الواقع، بمعنى آخر، التليفزيون لا يصنع وعيا لكنه يلغى الوعى وهذا فرق كبير. ومن تنجح معهم رسالة التليفزيون هم كتلة صامتة، محبطة، يمكنها أن تكتشف تغييبها فى أى لحظة، لكنها أبدا لا يمكن أن تكون أساس علاقة حاكم بالشعب بعد الثورات العربية. الثورات العربية حررت أجيالا كاملة من أسر الارتباط بدائرة الخضوع والاستسلام للأمر الواقع. الاستعمار الوطنى بث اليأس عبر سنوات طويلة فى شعوب كانت تحلم بصناعة دولة قوية عندما يرحل الاستعمار الأجنبى.. ووُلدت أجيال مستسلمة للقهر والقمع والديكتاتورية على أنها قدر. الجيل الجديد حرر معه أجيالا نامت أحلامها داخل الوقعات الشخصية والكهوف التى هرب منها كل من له روح يقظة وعقل مشحون الخيال. هروب كان جماعيا من كل ما هو جماعى. الاستعمار الوطنى بجنرالاته وإعلامه وتعليمه، أوصل المصريين إلى كراهية كل ما يجمعهم معا. مبارك كان الأكثر إبداعا فى إفساد كل ما يلتقى فيه الفرد مع جماعته. أيام مبارك لم تكن سوى عصر انحطاط طويل، فقد فيه المصريون علاقتهم بماضيهم، ويئسوا من أى مستقبل قادم، لم يكن أمامهم إلا الغريزة، وكما يفعل الشخص الذى يعيش تحت ضغط التبول، فيقف فى نصف الشارع ويتبول، ليس مهتما بذوق عام، ولا محترما فن العمارة، إنه يمتثل للضغط، لاغيا الزمن والوعى والقدرة على الإحساس بالجمال. أيام مبارك تشبه التبول فى منتصف الشارع، يتأفف منه بعض الناس، ويضحك الآخرون، لكن لا أحد يشعر بضرورة الخروج من الانحطاط. الانحطاط مصيدة أنقذتنا منها الثورة. ومن يتكلمون عن «ثوابت أخلاقية ووطنية» ليسوا إلا المتأففين من مشهد التبول، ويريدون أن يقبضوا على المتبول دون توفير حمامات عمومية. هؤلاء يريدون أن تضع السلطة هذه «الثوابت» لتخدمها وتخدم مهمة تحويلهم الجمهور الكبير إلى قطعان ترضى بالفتات الذى يلقيه السادة فى السلطة باعتبار أن الشعب عبيد وأغبياء. الثورة حررتنا من الانحطاط. من شعورنا بالخوف من كل ما هو جماعى. من فكرة اللقاء العام والاتفاق على صناعة «مصر جديدة». وهذا ما يزعج سلطة تريد الشعب قطعانا تدور فى متاهة الانحطاط، لا مجتمعا يعرف ما يريد. والإرادة فعل لا يمكن توجيهه برسائل تليفزيونية، أو بتحريض ضد الثورة، كما فعل تليفزيون أسامة هيكل أو من يحركه بالتليفون عندما أعد تقريرا عن خسائر الاقتصاد من المليونيات، وكأنه يحرض كل القلقين على لقمة العيش من المظاهرات، ويعميهم عن التفكير أن هذه المظاهرات من أجل بناء مستقبل بلا استغلال، وأن التليفزيون نفسه لم يفكر فى إعداد تقرير عن خسائر الاقتصاد المصرى من النهب المنظم، ولا تأثير دفع رشاوى قيمتها 50 مليون جنيه للفلاحين لكى يحتفلوا بعيدهم فى الاستاد بدلا من التحرير؟ تليفزيون الحكومة يسلب الإرادة مثل المخدرات، لكنه لا يصنع وعيا يمكنه أن يحمى سلطة مستبدة. أسامة هيكل.. لن تستطيع تجميل الانحطاط فقد فشل من هم أذكى منك وأقدر.