أحسد جدا هؤلاء الذين يغتصبون بغباوة و«معيلة شديدة» واحدة من أقوى وأهم سمات المولى تعالى خالق السماوات والأرض، إذ يُظهرون ويتصرفون دائما على أساس اقتناع راسخ بأنهم يملكون اليقين الكامل والصواب التام والحقيقة المطلقة، ولا يسمحون أبدا بأن يتسرب إلى رؤوسهم الحجرية أى احتمال يخالف ما استقر فى هذه الرؤوس منذ وُلدوا وداعب نور الدنيا عيونهم المعمصة.. أما على ماذا أحسدهم بالضبط؟ فعلى نعيم الراحة والاستقرار التام والكسل اللذيذ والنوم الهادئ فوق سرير البلاهة و«الطفولة العقلية». إن مكابدة أَرَق «الشك» وتعب التأمل فى الدنيا وظواهرها وشؤون الحياة هو الطريق الذى سلكته البشرية للصعود إلى أعلى سماوات الترقى والتقدم وصنع الحضارة.. يعنى مثلا: ماذا كان حال الإنسانية الآن لو أن أبو الفلسفة والعلوم الحديثة «رينيه ديكارت» (1596 - 1650) لم يقل «كلما شككتُ ازددتُ تفكيرا فازددتُ يقينًا بوجودى»، ثم تحدى بجسارة (فى البداية خاف قليلا) سطوة جمود أدمغة رجال الكنيسة والقيود المُحكَمة التى فرضوها على عقول البشر، فانطلق يؤسس «منهج الشك»، واتخذه سبيلا مفتوحا بغير نهاية لبلوغ «يقينيات» ما إن تستقر حتى يأتيها «الشك» مرة أخرى فتبدأ رحلة جديدة هدفها الوصول إلى يقين أقوى وحقيقة أهم وأرقى.. وهكذا أنجز البشر كل ما يتمتع به الآن كسالى العقول من خيرات العلم والتكنولوجيا. لقد تأخرت أمتنا، بعدما فقدنا القدرة على التبجيل والاحتفاء بعقول جميلة ونفوس سمحة وقلوب طيبة مثل الإمام الشافعى الذى زيَّن تقواه وعلمه الغزير بالتواضع وإبقاء باب الشك مفتوحًا دائما فى صواب آرائه واجتهاداته وأفكاره، ولم يَدَع أبدا ولا تفاخر بأنه يحتكر الحقيقة وحده ويملك اليقين الكامل، بل بالعكس كان يذكِّر نفسه دائما ويعلمنا، بأن «قولى (أو رأيى) صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب»، كما أنه هو الذى هتف فى تلامذته قائلا: «ما ناظرت أحدا إلا سألت الله تعالى أن يُظهر الحق على لسانى أو لسانه»!! وأختم بأن هذا التواضع عينه، لله وللحقيقة والناس، والتسامح والرقىّ عينهما يظهران جليَّيْن فى واحدة من أجمل تراث الشعر العربى، تلك التى أبدعها الشاعر وعالم الكيمياء العربى البارز «الطغرائى» (1063 - 1120)، إذ يقول: جامِل عدوك ما استطعت فإنه .. بالرفق يُطمَع فى صلاح الفاسد واحذر حسودك ما استطعت فإنه.. إن نِمْت عنه فليس عنك براقد إنَّ الحسود وإن أراك توَددا.. أضرُّ من العدو الحاقد ولربما رضىَ العدو إذا رأى .. منك الجميل فصار غير معاند ورضا الحسود زوال نعمتك التى .. أوتيتَها من طارف أو تالد فاصبر على غيظ الحسود فناره .. ترمى حَشَاه بالعذاب الخالد أوَما رأيت النار تأكل نفسها .. حتى تعود إلى الرماد الهامد نضفو على المحسود نعمة ربه .. ويذوب من كَمَدٍ فؤاد الحاسد و.. كل عام وأنتم بخير.