تُحْفَتان بديعتان مسجَّتلان على شريط سينمائى، كلتاهما تحمل الاسم نفسه (هناك نسخة ثالثة بالرسوم المتحرَّكة لا تقل روعة).. الأفلام الثلاثة تحمل جميعا اسم «العجوز والبحر»، وقد جرى صُنع وعرض النسخة الأولى عام 1958، وتألق فيها الممثل الكبير سبنسر تريسى، أما النسخة الثانية فقد تم إنتاجها للعرض التليفزيونى بعد 32 سنة (عام 1990)، ولعب دور البطولة فيها الفنان العبقرى أنتونى كوين. «العجوز والبحر» مأخوذ عن رواية «قصيرة» تحمل الاسم نفسه، كتبها واحد من أعظم وأكبر أدباء أمريكا الشمالية والعالم، أرنيست همنجواى، وحصل عنها على جائزة نوبل للأدب عام 1954، واسمح لى -عزيزى- أن أترك باقى السطور لملخص هذه القصة الرائعة، إذ أراها الأقرب والأكثر انطباقا على حال مجتمعنا حتى الآن، وأقصد جهاده ومحاولاته التى طالت على مدى مراحل تاريخه الحديث كله من أجل أن يمسك طريق النهوض والتقدم والحرية والديمقراطية والعدالة، لكنه يقطع شوطا ثم يتعثَّر على الطريق أو يتقهقر، فيعاود الرحلة من جديد، تماما كما الصياد العجوز «سنتياجو» الذى يحكى همنجواى (براهفة وإعجاز أدبى متفرِّد) حكاية جهاده اليومى وعناده وإصراره على امتطاء مركبه الصغير، مندفعًا به إلى قلب البحر، حيث يمخر عبابه وأمواجه العاتية، بينما أمل حلو يداعب خياله أن ينجح مرة فى صيد سمكة كبيرة، يعود بها فخورا سعيدا إلى قريته. الفشل المتتالى فى تحقيق حلم هذا العجوز، لا يردعه ولا يفتح فى قلبه ثغرة يمرّ منها اليأس، بالعكس، فالإخفاق والفشل يزيدانه إصرارا وتشبثا بالأمل والحلم، ومِن ثمَّ يكرر كل يوم معركته المنفردة مع البحر، حيث لا شىء يؤنس وحدته إلا حواره الداخلى مع نفسه.. على هذا النحو تمضى أحداث الرواية من صفحة إلى أخرى دون أن يشعر القارئ بذرّة من ملل أو سأم (تماما مثل البطل سنتياجو). وأخيرا تلوح فى الأفق بادرة تشى بأن انتصار الصياد العجوز على وشك أن يتحقق، ففى أحد أيامه التى تشبه بعضها، يخرج الرجل إلى البحر فى الفجر كالعادة، ويظلّ يصارع الماء والأمواج الصراع الشاق نفسه، حتى إذا ما انقضت ساعات الصبح وحلَّت الظهيرة يهتزّ مركبه الصغير فجأة بعنف، وتظهر له السمكة الحلم واضحة، وهى تتألق فى الماء بملامحها البهيجة وحجمها العظيم، إذن أخيرًا صار الصيد الثمين المرتجى قريبا وميسورا. غير أن الصياد العجوز المكافح سرعان ما يكتشف ونكتشف معه أن فصلا جديدا من الجهاد والصراع العنيف بدأ (هذا الفصل هو موضوع الفيلم) من أجل الإيقاع بالسمكة الهائلة العتيدة التى فتنت سنتياجو وهيَّجت عواطفه، فراح يناجيها ويخاطبها قائلا: «أيتها السمكة، كم أحبّكِ وأحترمكِ، لكننى بالتأكيد لن أدعكِ تفلتين، وسأنال منك شئتِ أم أبيتِ». يومان كاملان يمضيهما سنتياجو وهو يُكافح كفاحا مريرا فى عرض البحر للإيقاع بسمكته الضخمة، وفى صباح اليوم الثالث ينجح فى السيطرة عليها، بيْد أن الدماء التى تسيل منها تجتذب إلى المكان خصوما آخرين جبابرة لم يحسب لها الصياد حسابًا، إذ تتقاطر عليه بعض أسماك القرش الشرسة تريد خطف فريسته والتهامها، فينفتح باب جهاد وصراع جديدين أشدّ قوة وعنفا، بل هى حرب حقيقية طويلة يخوضها العجوز بصلابة وعناد، ويخرج منها فى النهاية سعيدا منتصرا، بعدما فاز ببقايا وأشلاء السمكة التى طالما تمنَّاها.