فى نهاية مقالها الثابت «أولادى حبايب قلبى» فى مجلة «سمير» كانت ماما لُبنى تكتب عبارتها الأشهر «كل حبى». ولم تكن نتيلة إبراهيم راشد، مؤسسة ورئيسة تحرير أشهر وأهم مجلة أطفال مصرية فى القرن العشرين، التى سماها والدها على اسم إحدى عمات النبى عليه الصلاة والسلام، تقدم لنا نحن -أبناءها وقراءها وتلاميذها- أقل من «كل الحب». كانت تحب حبا كاملا غير منقوص تزرعه فى ابتساماتها، وتوزعه فى «طبطبتها» علينا وقت كان للأطفال مكان ومكانة واهتمام فى هذا الوطن. فى نوفمبر 1992 وصلنى خطاب ملوّن يحتوى على بطاقة تحمل اسمى وصورتى وتوقيع منمنم صغير باسم ماما لُبنى، أما الخطاب فيعلن أنه تم قبولى ك«مراسل سمير الصحفى الناشئ»، وأما «الكارنيه» فيحمل عبارة «يُرجى تسهيل مهمة حامله فى عمله الصحفى»، وأما نحن فقد وصلنا إلى أكثر من ستة آلاف طفل مارسوا الصحافة وأحبوها فى مجلة «سمير» منذ كانوا أطفالا، فى حين كان للأطفال مكان ومكانة على خريطة اهتمامات «الدولة» مهما اختلفت معها. طوال تدريبى على يد أستاذى ومعلمى محسن الزيات، كنا نقابل ماما لُبنى ونتحدث معها عن كل شىء. تعلمنا كيف نتكلم، كيف نعبر عن وجهات نظرنا، كيف نحترم الآخر، كيف نحترم أقلامنا، كيف نحافظ على ضمائرنا مهما كان المناخ فاسدا، كيف نحب وطننا «كل الحب». كانت مجلة «سمير» التى أصدرتها «دار الهلال» فى أبريل 1956، وتعد ماما لُبنى أهم مؤسسيها، قبلة للمبدعين فى الكتابة والرسم، كتب فيها الجميع من نجيب محفوظ وطه حسين مرورًا بيوسف السباعى ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، ورسم فيها الأسطوات الكبار من عمنا اللباد مرورا ببهجت عثمان وحجازى وغيرهم من «العتاولة»، ووصل توزيعها إلى 200 ألف نسخة فى فترة من الفترات، وفيها ومنها تعلمت أجيالٌ السياسة وحب الأدب والقراءة، وفيها ومنها تعلمت أجيالٌ كيف تحب هذا البلد. كان الأطفال فى أولويات صانع القرار، وكان الوطن زاخرا بهؤلاء الذين يستطيعون حمل الأمانة، أما القاعدة فكانت إذا أردت أن تتسلى فاقرأ «ميكى»، أما إذا أردت أن «تتثقف» فاقرأ «سمير». فى مجلة «سمير»، وعلى يد ماما لُبنى ومحسن الزيات تعلمنا فنون الكتابة، وعرفنا معنى «الانتخابات» و«الجمعية العمومية» ونحن أطفال لم تتعدَّ أعمارنا الخامسة عشرة، وكانت ابتسامة ماما لُبنى هى المكافأة، فى حين نعرف إذا منعتها عنا أنه أشد أنواع العقاب. كانت لماما لُبنى قوانينها الخاصة التى منعت بها زوجها، كاتب الأطفال الأشهر والأغزر إنتاجا، عبد التواب يوسف، من الكتابة فى مجلة «سمير» حتى لا يتهمها أحد بأنها تحابيه، رغم أنه كان كاتب الأطفال الأول آنذاك، ولم ينشر عبد التواب يوسف سوى قصة واحدة دون علم ماما لُبنى مجاملةً للمجلة فى أحد أعياد ميلادها. فى حياتها الشخصية كان أعظم إنجازات ماما لُبنى أبناؤها، أو إخوتى، السفير هشام يوسف، والكاتب المعروف عصام يوسف، وأستاذة الأدب الإنجليزى المحبوبة د.لبنى يوسف، أما فى حياتها العملية فيكفيها أن عملها لم ينقطع منذ رحيلها فى السادس والعشرين من نوفمبر عام 2012 بدعوات أبنائها وتلاميذها. هذه دعوة صريحة ومباشرة للدولة المصرية للاهتمام بالطفل المصرى الذى هو قضية أمن قومى، والذى اختفى من خارطة اهتمامات الدولة وحكومتها، بل ورئيسها ذاته. هذه دعوة لتكريم اسم نتيلة راشد، ماما لُبنى، التى نسيتها «دار الهلال» نفسها، لكن أبناءها لن ينسوها أبدا. هذه أيضا تذكرة بأن مصر لم يعد لها مجلة أطفال مصرية تعبر عنها وعن هويتها فى ظل تراجع مجلة «سمير» نفسها بسبب فقر الإمكانات، رغم أن أهم كتّاب ورسامى مجلات الأطفال العربية كتاب وفنانون مصريون. رحمة الله على ماما لُبنى العظيمة الكريمة، وقُبلة على جبينها الذى أفتقد تقبيله، ستصل إليها حتما حيثما كانت، والبقاء لله فى مشروع الطفل المصرى.. وكل حبى!!