هدَّدت السيدة ياسمين النرش، الشهيرة ب«سيدة المطار»، الضابط بخلع ملابسها، فانكشفت عورة الدولة والمجتمع. الحادثة فى مجملها تافهة وكان يكفى فيها الاحتكام إلى القانون، ولكنها أصبحت قضية رأى عام شغلتنا وستشغلنا لعدة أيام بعيدًا عن القضايا الجادة، هذه الواقعة كشفت المنحدر الذى وصلنا إليه. الخلاصة: نحن لا يمكن أن نعرف الحقيقة فى أى حادثة مهما كانت صغيرة أو تافهة، ومؤسساتنا المكلّفة بحفظ الأمن وإقامة العدل وصيانة الدستور لا تحظى بثقة عدد غير قليل من المواطنين، وأصحاب المال قادرون على تجاوز القانون، ونفوذهم أقوى من أى سلطة فى الدولة، وإعلامنا بلا قواعد، ويبحث عن الإثارة، ويجعل من الوقائع التافهة قضية وطن. لو أعدنا قراءة ما نُشر وأُذيع عن الحادثة، فإننا نكتشف حيرة المواطن البسيط، ومَن تابع الصحف والفضائيات وصفحات «الفيسبوك» والمواقع الإلكترونية، لا يعرف هل سيدة المطار جانية أم مجنى عليها، تاجرة مخدرات، أم ضحية تم تلفيق القضية لها بعد اعتدائها على الضابط، الكل يحلّل جوانب الحادثة من وجهة نظره، ويستنتج ما حدث حسب موقفه، مَن يدافع عن الشرطة يؤكّد أن السيدة مجرمة ويستند إلى شريط الفيديو وتصريح مساعد وزير الداخلية عن اعترافها بحيازة حشيش للاتجار فيه، ومَن يكره الداخلية -بسبب أفعال بعض ضباطها- يصوّر الأمر على أنه تجاوز جديد من الشرطة، ويستند فى تحليله إلى أن السيدة تم استفزازها، وأنها ثرية ومن عائلة غنية، ولا يمكن أن تتاجر فى المخدرات، وإن تاجرت فليس بهذه الكمية الصغيرة، كما أن تاجر المخدرات المحترف لا يعترف بسهولة، لأنه يعلم العقوبة المشددة، وأن أقصى ما يعترف به فى مثل هذه الحالات هو الحيازة للتعاطى. الجميع يتحدَّث بصيغة الأكيد والمؤكد، لكن لا أحد يعرف الحقيقة كاملة أو لديه يقين بحقيقة ما حدث. تنتشر على صفحات «الفيسبوك» معلومات متضاربة عن المتهمة، هى راقصة فى ملهى نجيب ساويرس، وهى فى نفس الوقت سيدة أعمال ولديها مشروعات فى البحر الأحمر، وهى أيضًا لا تعمل حسب المكتوب فى بطاقتها الشخصية، وهى كذلك ابنة الناس المحترمين الذين لا يتلفّظون بكلام جارح، وهى السيدة التى ردحت للضابط وهدّدت بخلع ملابسها أمام الجميع، وهى كذلك ابنة طبقتها التى ترى فى نوعية هذه الملابس شيئًا عاديًّا، خصوصًا فى القرى السياحية بالغردقة. كل هذا التضارب فى المعلومات والاستنتاجات يكشف الأزمة التى تمر بها مصر. الكثير من المواطنين لا يصدقون «الداخلية»، ولديهم اعتقاد جازم بأنها تلفّق القضايا لمَن يحتك بضباطها، ولهذا لم يقتنع عدد غير قليل ببيان «الداخلية» الذى يدين السيدة. وهناك مَن يرى أن كل ضابط مُدان ومجرم فى جميع الأحوال، ولهذا سارع البعض بعمل «هاشتاج» تحت اسم «الحرية لياسمين النرش»، والداخلية لا تحاول تحسين صورتها أمام المواطنين، بل تزيدها سوءًا بوقائع الاعتداء على المواطنين فى الأقسام والسجون. أيضًا الشك فى النزاهة والحياد وصل إلى القضاء، ورغم أن قرار الحبس 4 أيام ثم 15 يومًا على ذمة التحقيقات صدر من النيابة، فإن البعض يشكّك فى صحة الواقعة. فى المقابل، يوجد مَن يعتقد أن كل رجال الأعمال فاسدون، وأن السيدة كانت تعلم وهى تعتدى على الضابط وتهدده أنها تملك من المعارف والوسايط والأقارب ما يحميها ويعاقب الضابط، حتى لو كان هو المجنى عليه والضحية، ولهذا فإنها لم تهتم بتصويرها وهى تعتدى على الضابط، أصحاب هذا الرأى تبنّوا فكرة أن الفيديو ظهر عندما تدخل كبار ل«لمّ» الموضوع، وأن هناك ضغوطًا مورست ل«قفل» القضية، فسرَّبوا الفيديو، حتى تكون قضية رأى عام. جملة ما فات تؤكد انحدار مؤسسات الدولة، وأنها تفتقر إلى المصداقية، وأن أجهزتها إن لم تكن متواطئة فإنها عاجزة عن مواجهة تغوُّل الشرطة ورجال الأعمال. أما الإعلام فهو يستسهل إصدار الأحكام قبل التأكد من الحقيقة، ومَن دافع عن السيدة فلأنه يعرفها أو على صلة بأسرتها، ومَن هاجمها فهو على صلة ب«الداخلية»، ولا بد أن يقف معها. وهكذا فإن قضية ياسمين النرش كشفت عورتنا: مؤسسات لا يثق فيها المواطن، وإعلام لا يبحث عن الحقيقة، ورجال أعمال متغولون، ومجتمع ينتعش بالنميمة.