للكتابة مستويات عديدة وما يفهمه البعض منها يختلف عما يفهمه البعض الآخر. كذلك ما يفهمه الواحد الآن يختلف عما سيفهمه ويحس به بعد مرور فترة من الزمن، وهناك من الأعمال ما يكتب له الخلود لقدرته على التأثير فى الناس طوال الوقت ومع اختلاف العصور والأوقات والأمزجة. لكن أحيانا ينتاب الإنسان بعض الحيرة عندما يتصور ما يكتبه واضحا، ثم يكتشف من ردود الأفعال أن الأمر ليس كذلك، وأغرب ما يحدث هو أن يحصل الإنسان على ثناء لا يستحقه بفضل الفهم الخاطئ الذى يجعل البعض أحيانا يخطّون رسالة لكاتبهم مملوءة بالحب والتقدير على مقاله الذى تبنى وجهة نظرهم التى تقضى بكذا وكذا، مع أن الأمر فى حقيقته كان مختلفا تماما، لأن الكاتب كان ميالا لعكس وجهة النظر التى جلبت له الثناء! وأنا شخصيا كثيرا ما يصيبنى الضجر من الكتابة فى السياسة والتعليق على الأحداث المتلاحقة المتعلقة بهموم الوطن فأجنح نحو كتابة من نوع مختلف أروى للقراء فيها حكاية ذات دلالة، عشتها وتابعت أحداثها أو كنت شاهدا عليها، وأحيانا أطرح قضية تحتاج إلى التأمل والرويّة وإمعان التفكير قبل الحكم عليها.. لكن أحيانا أجد أن القارئ الذى يعيش على أخبار الثورة ويتنفسها صباح مساء، ويتابع منذ سنة ونصف أخبار انتصاراتها القليلة والضربات الوحشية التى توجه إليها، يستقبل كل الكتابة باعتبارها تدور حول المجلس العسكرى والإخوان المسلمين، ويعتقد أن المقال ملىء بالإسقاطات السياسية، كما يظن أن الحدوتة الاجتماعية التى يسردها الكاتب تخفى وراءها أفكارا وعرة من كاتب حويط لا يريد أن يواجه الأطراف السياسية برأيه فى أدائها فيلجأ إلى الرمز ويمارس الكتابة الغامضة التى تنتقد العسكر وتنال من الإخوان وتهاجم الوزراء وتهزأ بهذا وتسخر من ذاك، متخذا من الفن القصصى ستارا للآراء الرهيبة التى يعرضها! وأنا فى حقيقة الأمر أعذر القارئ الذى لم يترك له الظالمون متنفَّسا يرى منه حقيقة مغايرة للهراء الذى يملؤون به مخه، أو فسحة من عقل يمكن أن تخلو من أخبار عن محاكمات عسكرية للمدنيين وبراءات للضباط القتلة أو إهانات لأهالى الشهداء.. وهو الأمر الذى يجعل القارئ لا يتصور أن هناك كاتبا عاقلا يمكن أن يترك الوليمة الدموية ويُعرض عنها ثم يحكى لهم حكاية لا علاقة لها بالأحداث الساخنة الجارية. منذ أيام كتبت تغريدة على «تويتر» قلت فيها: «زمان كنت أحلم بأننا سنجعل العالم مكانا أفضل.. والآن يكفينى أن يرصفوا شارع 9». كنت أتحدث بأقل عدد من الكلمات عن الأمانى المستحيلة وعن العمر الذى ضاع والقطار الذى وصل بنا إلى محطة الحسرة بعد أن تكسرت أحلامنا وضاعت مع الحكام الهلافيت القتلة، وكنت بينى وبين نفسى أستحضر قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى «مرثية العمر الجميل» التى كتبها وقت أن كان لا يزال يكتب الشعر.. وظننت أن المعنى واضح ولا يحتاج إلى كتالوج، لكنى فوجئت بردود جادة تسألنى: هل كنت أقصد شارع 9 بالمعادى أم شارع 9 بالمقطم؟ ثم وجدت بعض من يعرفون أننى أسكن بالمقطم يكتبون عن مشكلات أخرى بالحى مثل الحفرة المجاورة لأسماك الدوران، أو سنترال المقطم والخطوط الأرضية الناقصة لديه أو تكدس عربات التوك توك عند مساكن الزلزال. كل هذه مشكلات حقيقية يعانى منها أهل المقطم، لكنى كنت أتحدث عن أمر آخر بخلاف المشكلات العجيبة التى لم تعد موجودة بأى بلد طبيعى يحكمه بشر وليس كائنات جلفة غليظة المشاعر نجحت فى إحداث فجوة بينى وبين أناس يشكلون المجال الحيوى الطبيعى لى ككاتب وكإنسان، فجعلتهم من فرط المعاناة مع السلطة ومع المحليات لا يرون أحزانا سوى أحزانهم، ويتصوروننى حاملا لواء عذابات سكان المقطم الذى سيكيل الضربات لرئيس الحى حتى يفرغ من رصف شارع 9 قبل رمضان!