جاء غاضبا، وحينما سألناه بفضول مراهقين منعدمى الصبر، عن السبب، قال «تمردت على يد أبى، فلم أُطِقْ تقبيلها بالأمر كل صباح وإذا نسيت يعنّفنى ويلاحقنى بالسباب». كانت الأغلبية المستمعة تلوم الابن، ثم اندلعت موجة وعظية حول قداسة الوالدين، والتبرك بطاعتهما بتقبيل الأيدى، وكيف انتهك زميلنا ديننا وتقاليدنا. كنت أراه محقًّا، فتبجيل الوالدين لا يحتاج إلى طقوس، وإذا لجأ إليها البعض كمراسم لا يجيد غيرها، فيجب أن لا تكون أمرًا، بل تصرُّف تلقائى يفرضه شعور لحظى، أو رغبة فى تقديم عرفان. هنا القُبلة تعنى حبًّا، والحب دفقة وليست شلالا. كرهتُ هذا الطقس العبودى أكثر عندما استمعت إلى زميل يعزو الغضب المستتر بينه وبين أحد أساتذتنا إلى رفضه تقبيل يده. كان الرجل يعتبر ظهر يده توقيع حضور يومى لمرؤوسيه، يتلذذ أغلبهم بالقُبلة على يد مَن يقولون إنه أب ومعلم وجب احترامه، بينما كنت أنا أشارك زميلى غضبه، لأنه يرفض القُبلة على يد «سلطة أبوية»، يحرّكها وعى ريفى مستبدّ. وفى السياسة والدين كما فى العمل، تتغير معانى القُبلات لو فقدت مسارها البكر، فذاك حاكم يقدم نفسه كهاشمى، حفيد النبىّ، وآخر كحامٍ للمقدسات، وثالث كمقاتل فئة باغية، ورابع كمصدر لثورة إسلامية تقتصّ من قَتَلَة الحسين. هنا تصبح القُبلة تبرُّكا بلمس جسد مقدس لأمير المؤمنين، فهو دم نقى، ولو كان يجرى فى جسد طفل صغير يحمل وشم الإمارة، مثلما ينحنى أصحاب المعالى أمام الأمراء الأطفال. وهو أهون على كل حال من انحناءة أبى عبد الله صاحب الشرطة فى عهد الخليفة الهادى، فقال الطبرى إن الرجل لما شاهد الخليفة قادمًا على حماره، انحنى يقبِّل قدمه ورجله، ثم أوغل، فقبَّل قدم الحمار وحافره!