هل تعود القاهرة مرة أخرى إلى دورها العربى، عندما كانت تستقبل الوجوه الثورية والمناضلة فى أرض الكنانة؟ هذه الوجوه التى كانت تأتى من كوبا مثل آرنستو دى جيفارا وفيدل كاسترو، أو من إفريقيا مثل الزعيم نكروما وجوليوس نيريرى ولومومبا، أو من الهند مثل جوزيف بروز تيتو وأنديرا غاندى، أو من شتى أنحاء العالم العربى، وعلى رأسهم قيادات ثورة الجزائر. ولأن هذه الرغبة ليست مستحيلة التنفيذ والاستعادة، وعلى إيقاعها نتذكر ما تيسر من أحداث مصر القومية والعربية رغم أى مؤاخذات أخرى فادحة، لقد كان هناك حلم كبير، وبالطبع لم يسلم هذا الحلم من الضرب الداخلى والخارجى، وتم تشويهه تماما من ناحية المتربصين الأشاوس، الذين رفعوا رايات الأيديولوجيات فى مواجهة البعد الوطنى، هذا التشويه الذى تم تسويقه وترويجه بواسطة أجهزة إعلامية وسياسية على مدى نصف القرن الماضى، وسمعنا محمد مرسى نفسه يقول فى أول خطاب رئاسى له: «وما أدراك ما الستينيات»!! محرضا بشكل واضح ومعلن ضد قيادة وطنية عظمى مثل جمال عبد الناصر، وعندما أدرك أن المصريين يكنون تقديرا عاليا لناصر يفوق تقديرهم لأى رئيس تلاه فيما بعد، تراجع عن إهاناته وراح يغازل الشعب باستخدام عبارات تكاد تكون ناصرية تماما، وهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة لا مقال عابر. وعلى هذا الإيقاع تطالعنا جريدة «الأخبار» الصادرة بتاريخ 12 أبريل عام 1962، وفى مانشيتها الرئيسى بأكبر بنط، وباللون الأحمر: «جميلة فى القاهرة»، ثم مانشيت آخر، وببنط أقل: «عبد الناصر يودّع زعماء الجزائر فى مطار ألماظة»، ثم مانشيت ثالث: «البطلة جميلة بوحريد تطير إلى القاهرة يوم الأربعاء». مانشيتات عربية فى جريدة قومية، لا تعنى سوى هذا التوجه الواضح، والذى لا يوجد فيه أى لبس، هذه المانشيتات لا تأتى منفردة، بل تتعدد الموضوعات التى تعضدها، وعن المانشيت الرئيسى نقرأ تقريرا تحت عنوان: «بعد 5 سنوات فى سجون فرنسا.. تطير جميلة إلى القاهرة.. استقبالات شعبية ضخمة للبطلة المجاهدة»، ثم يقول التقرير: «جميلة بوحريد، البطلة الجزائرية، تطير إلى القاهرة يوم الأربعاء القادم، كانت سجينة فى معتقلات فرنسا، تم الإفراج عنها أمس، نقلت إلى المستشفى للاستجمام من عذاب السجن، تغادر فرنسا يوم الثلاثاء القادم». ويستمر التقرير فى تفصيلات تتعلق بمردات الزيارة، وحديث عن اللقاءات التى ستكون فى انتظار المجاهدة، ومعها المجاهدة جميلة بوعزة، والمجاهدة جميلة بوباشا، وكان الاتحاد القومى للمرأة يستعد على قدم وساق للتجهيز لهذه اللقاءات الموسعة جماهيريا. وكانت إحدى المحاكم الفرنسية والعسكرية قد حكمت على جميلة بالإعدام، وكان قد تحدد موعد إعدامها فى 7 مارس 1958، وعلى إثر ذلك اهتز العالم كله لهذا الحكم الظالم ضد المجاهدة الوطنية، ووقفت الدنيا كلها ضد فرنسا، حتى تراجعت الحكومة الفرنسية وأبدلت بالحكم السجنَ المؤبد. وكانت دورية استعمارية -كما جاء فى التقرير- فرنسية قد ألقت القبض على جميلة فى 26 أبريل عام 1957 بعد أن أطلقوا عليها الرصاص، فأصابوها فى أثناء مطاردتها، وبعد القبض عليها استخدمت معها أبشع وسائل التعذيب، عذبوها بالكهرباء ثلاثة أيام، طلبوا منها الاعتراف والإدلاء بعناوين المجاهدين فى الجزائر وأسرار الحرب الجزائرية، ولكنها صمدت صمود الأبطال، وكان عمرها وقتذاك 23 عاما، ورفضت الاعتراف أو الإساءة إلى قضية بلادها، وفى 5 مارس اجتمعت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة وناقشت مأساة جميلة بعد أن تلقت ملايين البرقيات الاستنكارية من كل بلاد العالم.. وبقيت جميلة فى سجون فرنسا منذ سنة 1957 حتى 11 مارس تقاسى صنوفا عديدة من التعذيب والوحشية، حتى الإفراج عنها لتفتح لها القاهرة العربية ذراعيها بكل ترحيب. وجدير بالذكر أن هذا الاحتضان لم يكن جديدا على القاهرة، بل إنه دور قديم، وتوجه أصيل، وخصوصا موقف المثقفين تجاه قضية جميلة، فقد أصدر المثقفون المصريون بيانا فى أعقاب القبض عليها، وكان عنوان البيان: «نداء من الكتاب والفنانين المصريين إلى الكتاب والفنانين الفرنسيين»، وأوضح البيان أن حكومة فرنسا تريد الحرب، وتشن هجوما مكثفا على الوطنيين الجزائريين، فتسجنهم وتقتلهم لمجرد أنهم يناضلون من أجل تحرير بلادهم، وبعد إيضاحات كثيرة لعدالة قضية الجزائريين وفى القلب منها قضية جميلة، يقول البيان: «ولن يمكن للطغاة أن يضعوا نهاية لأسطورة جميلة، لن يمكنهم أن ينتزعوا قلبها، أو يسكتوا صوتها، أو يحرموا الشعب من بطولتها الظافرة.. ولا بد أن يطلع فجر، يبتسم بملامح جميلة.. كل يوم ينادى غده، لا بد أن تعيش جميلة.. كل شبر من الأرض يحاصرنا بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة.. تجمعوا فى يد واحدة لتوقيع هذا النداء.. ضموا صوتكم إلى صوت كل إنسان شريف، وارفعوا بهذا النداء لترفع المقصلة عن رأس جميلة بوحريد.. فكل ثانية تمر تستشهد بهذا النداء.. لا بد أن تعيش جميلة». ووقّع على البيان كبار المثقفين والفنانين المصريين، منهم إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وكامل الشناوى وكامل زهيرى وفؤاد حداد وفاتن حمامة وأم كلثوم وغيرهم. وجدير بالذكر أن فيلما سينمائيا أنتجته وقامت ببطولته الفنانة ماجدة، وأخرجه يوسف شاهين عنوانه «جميلة بوحريد»، وكتب كذلك عبد الرحمن الشرقاوى مسرحيته «مأساة جميلة»، وكتب كامل الشناوى «أوبريت جميلة»، هذا بالإضافة إلى قصائد الشعراء صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد عبد المعطى حجازى وغيرهم، وكل هذا ساعد فى إنصاف هذه المجاهدة حتى تم الإفراج عنها، وتكون أول عاصمة تزورها بعد الإفراج عنها هى القاهرة.