قلت من قبل وأكرر تانى: إن الغُلب والبؤس يبدآن فعلا من الاقتصاد والفقر والحرمان المادى، غير أنهما لا يتوقفان للأسف عند هذه الحدود، بل يتفشيان ويستفحلان بالزمن ويتحولان إلى نمط شامل للحياة وغول ينهش عقول وأفئدة وأرواح وأخلاق وضمائر الناس حتى هؤلاء المحظوظين الذين أفلتوا من الفاقة والعوز الاقتصادى. لهذا فجريمة النظم القمعية الفاسدة تتجاوز كثيرا جدا مجرد نهب وتخريب مقدرات وثروات المجتمع المادية لصالح حفنة من اللصوص الكبار الذين يتحلقون حول الحاكم الديكتاتور وأسرته مقابل إفقار وتجويع الأغلبية الساحقة من الشعب (انظر ما حدث لنا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى)، لكن جريمة هؤلاء الحكام ونُظُمهم تتضخم وتتورَّم وتصبح بحجم الوطن نفسه بسبب أن عملية السطو المسلح على السلطة والثروة ترافقها غالبًا عمليات تدمير وتخريب تكميلية تستهدف كلها ضرب وتغيير طبيعة ما يسمونه فى علوم السياسة البنية الفوقية للمجتمع، أى عقله ووجدانه ونَسَقه القيمى والأخلاقى ومنظومة الثقافة السائدة فيه، خصوصا التفاسير والمفاهيم المنسوبة إلى الدين والتى يجرى تطويعها وتسطيحها وابتذالها عمدًا وبطريقة منهجية لكى تُستخدم كسلاح إرهابى، ربما هو أكثر خطورة وفاعلية من أسلحة ووسائل القمع والقهر المادى البوليسى المباشرة المتوفرة والحاضرة أصلًا. أدرى أن الكلام السابق يبدو صعبًا ومسرفًا فى الحذلقة النظرية أكثر من المعتاد أو المحتمل، لهذا قد تتضح وتنجلى الفكرة التى يريد العبد لله التعبير عنها إذا ما استعدنا معًا القاعدة الذهبية التى عملت بها قوى الاستعمار القديم (والحديث أيضا) بإخلاص، تلك التى يقول منطوقها صراحة إن الشعب الجاهل أسهل وأسلس قيادة من الشعب النابه المتعلم ، هذه القاعدة ورثتها عصابات الاستعمار الداخلى التى قفزت على سلطة الحكم فى بلادنا وأوطاننا المنكوبة وطبقتها أحيانا بالتزام وإخلاص أشد من جيوش الاحتلال الأجنبى، لهذا فإن التجهيل ونشر التخلف والتعصب وضيق الأفق هى كلها بضاعة أساسية لا تستطيع النظم القمعية الفاسدة العيش والبقاء إذا تهاونت أو تكاسلت فى ترويجها. إذن، ليس من قبيل الصدفة أبدا أن تشهد العقود الأربعة الأخيرة من عمر هذا الوطن شيوع وانتشار تلك الطائفة الواسعة جدا من الظواهر المشينة التى قد يضحك بعضنا منها وينجرف أغلبنا بالغفلة والإلحاح للغرق فى أوحالها.. ومنها على سبيل المثال، ظاهرة تبجيل وترقية أنصاف المتعلمين والجهلة و الصيَّع وتمكينهم، ليس فقط من التحكم فى مفاصل الدولة والمناصب العليا فيها، وإنما أيضا تسليط هذا النوع من المزهوين الفخورين بجهلهم عمدا على أدمغة الناس من خلال منابر الإعلام بالذات، بحيث أضحت الجهالة والبذاءة و الشرشحة المادة الرئيسية التى تبثها أغلب هذه المنابر ليلا ونهارا فى عقول الناس ووجدانهم. وكذلك لم ينجُ الدين نفسه من تلك المحرقة العقلية والروحية الرهيبة، بل لعله كان أهم وأعز وأثمن ضحاياها على ما يدل تسونامى الرطان والضجيج الدينى الرهيب الذى يحاصرنا من ساعة أن نصحو حتى ننام، بينما هو فارغ تماما من أى مضمون خُلقى أو روحى، ومسجون فقط فى زنازين الشكل و الطقس و ديكور الورع الكاذب المنافق الذى يتعايش مع انفلات سلوكى وموت ضميرى وانحراف أخلاقى عمومى مروِّع ومستشرٍ تُرتكب تحت ظلاله موبقات وجرائم يندَى لها الجبين، كما تُولد من رحمه وتقتات عليه عصابات قتلة وإرهابيين متفوقة فى الهمجية والوحشية والعداء على كل منتجات وثمار مسيرة التحضر الإنسانى الطويلة. أظنك عزيزى القارئ لست محتاجًا إلى السؤال عن مناسبة معينة لكل هذا الكلام، إذ أينما وجَّهت بصرك حولنا الآن ستجد ألف داع وسبب لكى نواجه أنفسنا بهذه الحقيقة المُرة التى لا نملك ترف المزيد من تجاهلها والصبر عليها أكثر مما صبرنا، وعلينا بسرعة أن نعمل على تغييرها بسرعة وشجاعة قبل فوات الأوان، وقبل أن يتآكل ويتبدد مخزون حضارتنا التليدة، ونفقد قدرتنا على هزيمة التأخر واللحاق بركب التقدم، بعدها نهزم هزيمة نهائية تلك الشياطين التى تتقافز حاليا على مسرح الوطن وتدمى قلوبنا كل ساعة بفقرات مروعة من مهرجان الدم والتخريب . و.. السلام ختام.