فى الرابع عشر من يوليو عام 1789 اقتحم أهل باريس سجن الباستيل الرهيب مدججين بالفؤوس والمحاريث، ليسقط فى أيديهم بعد قتال قصير وليحطموه عن بكرة أبيه فى ليلة وضحاها، هى الحادثة التى أطلقت شرارة الثورة الفرنسية، تلك الثورة التى جاءت لتعلى قيمة الإنسان وحقوقه فوق العديد من القيم الراكدة والعفنة التى سادت الحياة لقرون طويلة. لكن الطريف فى الأمر، أن الباستيل هذا المعتقل الذى عُدَّ رمزًا للظلم والقهر حين تم اقتحامه لم يكن بداخله سوى سبعة أشخاص، اثنان منهما مختلان عقليا، ومزور عملة، وثلاثة لصوص، والماركيز دى صاد الرجل الذى اشتقت السادية من اسمه، إذن كان السجن خاويا فلماذا عد إذن رمزًا للقمع؟ الحقيقة أن سجن الباستيل لم يكن سوى قلعة للدفاع عن باريس، أمر لويس الرابع عشر فى القرن السابع عشر بتحويله إلى قصر ملكى ابتهاجًا بميلاد ابنته، كانت باريس شأنها شأن مدن القرون الوسطى تعانى عدم استقرار، وانتشارًا لمعدلات الجريمة، وضج رجال الدولة مما سموه أن يد العدالة بطيئة، وأن القانون العام غير كاف لردع المجرمين، لذا فكان الحل من وجهة نظرهم أن يوقع الملك خطابات اعتقال لعتاة المجرمين، والنبلاء المتمردين لتأديبهم بعيدًا عن يد القانون المشلولة، الخطابات المختومة، هى مجرد استثناء بسيط للقانون من أجل حماية البلاد من الفوضى، على أن يكون ذلك فى حدود ضمانات أكيدة، فيجب أن تكون أوامر الاعتقال مكتوبة بخط يد الملك، ومختومة بخاتم الملك شخصيا، على أن يكون مصير هؤلاء المعتقلين إلى قلعة الباستيل، تلك القلعة التى أضحت قصرا ملكيا، وبحيث ينفق الملك شخصيا عليهم ليبدوا كأنهم ضيوف فى ضيافة إجبارية لدى الملك لا معتقلين. كان الأمر مقبولًا ربما فى إطار المشكلات التى تشهدها باريس، وفى إطار ظروف تاريخية صعبة -دوما هناك ظروف تاريخية صعبة- لكن الأمور تطورت مع الوقت شيئا فشيئاً، فقد تحولت الخطابات المكتوبة إلى خطابات مطبوعة، يترك فيها اسم الشخص المراد اعتقاله فارغا ليملأه الملك بخط يده ويختمه بخاتمه الشخصى، ثم تطور الأمر ليستثنى خاتم الملك، فيكفى أن يقوم وزير من الوزراء بالتوقيع على خطاب اعتقال، ثم تدنى أكثر وأكثر ليصير فى يد حكمدارى البوليس ومساعديهم. وهكذا انتهى الأمر بمرور السنين إلى أن أصبح الأمر الاستثنائى أمرا اعتياديا، أما العدالة الحقيقية وحكم القانون فقد صارت هى الاستثناء. لم يعد الباستيل يكفى مئات الآلاف من الذين وقعت ضدهم أوامر الاعتقال دون علم من الملك أو حتى وزرائه، واستلزم الأمر بناء المزيد من السجون، حتى أصبح فى فرنسا عشية قيام الثورة نحو 500 سجن آخر، ليصير الباستيل سجنًا شبه مهجور، خاويا على عروشه ليلة أن اقتحمه فلاحو باريس، إذن لم يكن الباستيل سجنا ذا أهمية عند بدء الثورة الفرنسية، لكنه كان رمزا واضحا لكيفية صناعة الاستبداد. مرت أكثر من 200 عام على سقوط الباستيل، لكن البشر على مدى القرون لم يتعلموا أبدا من تجربة الباستيل شيئا، لم يتعلم أحد أن الاستثناءات التى تُرى على أنها وسيلة لتجاوز بطء العدالة وقصورها، ينتهى بها الأمر إلى أن تصير كامل المعنى لغياب العدالة بالكامل، وبأن تجاوزًا واحدًا فى حق إنسان من أجل حماية بلد ما من فوضى تضربها، يصبح مع الوقت تجاوزًا فى حق مئات الآلاف من البشر، وبأن الإجراءات الاستثنائية وتجاهل العدالة من أجل منع الفوضى، هى الطريق الأقصر لصنع الفوضى الكاملة. وهكذا نجد أنفسنا أمام العبارة التى تقول: إن كان من درس واحد يمكن أن نتعلمه من التاريخ، فهو دون شك سيكون الدرس الذى يقول بأن لا أحد أبدا يتعلم من التاريخ.