الرد الحاسم والمفحم ضد كبت حرية السينمائيين والمبدعين بوجه عام فى إيران جاء قبل ساعات قليلة من مهرجان برلين فى تلك الدورة عندما أعلن الحاضرون من مختلف دول العالم مؤزراتهم بالتصفيق بقوة للفيلم الإيرانى «تاكسى» للمخرج جعفر بناهى، وكأنهم يقولون فى نفس اللحظة «نعم» للشريط السينمائى فنيا وأيضا سياسيا. مَن الخاسر؟ البلد الذى يقهر مثقفيه وفنانيه، أم أن المقهورين يدفعون الثمن مرتين ويتعذبون مرتين، واحدة لإجهاض الإبداع بداخلهم، والثانية لبقاء حال مجتمعهم على ما هو عليه؟ لا نزال فى كثير من دول العالم الثالث نسمع من يرددون مع جوبلز وزير الدعاية النازى: كلما قرأت كلمة مثقف تحسست مسدسى ، وكانت وسيلته هى الكذب، بل والإمعان فيه. ولديه عبارة أخرى أيضا لا تقل شهرة عن الأولى وهى: اكذب حتى يصدقك الناس . لا توجد أنظمة شفافة فى العالم كله، ولكن تتباين درجات القمع ودائما الحجة المعلنة هى حماية الأمن القومى، ولهذا يأتى الإبداع فى المقدمة الاتهام. كثيرون يتسألون كيف أن السينما الإيرانية فى بلد يمارس فيه القيود السياسية تستطيع أن تحقق هذه المكانة الاستثنائية على مستوى العالم كله، الإبداع ينتعش مع نسمات الحرية لكنه ينتعش أيضا وبنفس الدرجة عندما يصبح معادلا موضوعيا للبحث عنها -أقصد الحرية- إذ تصبح الأعمال الفنية هى الوسيلة للدفاع وهى أيضا الهدف المنشود. ومع تعدد المهرجانات يصبح العالم كله بمثابة قرية صغيرة مثل تلك التى حلم بها عالِم الاتصال المعروف مارشال ماكلوهان مع الانتشار الطاغى للإعلام من خلال موجات راديو الترانزستور. إن العالم أصبح قرية صغيرة ، إنها تلك القرية العالمية التى تختفى فيها الحدود بين بلد وآخر ويصبح كل شىء متاحا أمام الجميع. وهكذا مثلا لعبت الفضائيات دورا مؤثرا فى توجيه ثورات الربيع العربى من خلال نقل المعلومات أو على الجانب الآخر نفيها من السلطات الحاكمة. بالتأكيد الفضائيات ساهمت فى نقل الأحداث بأسرع ربما مما توقع ماكلوهان. السينما من خلال المهرجانات العالمية لعبت دورا محوريا فى بناء تلك القرية العالمية عندما أصبح الفيلم السينمائى لا يعنى فقط البلد الذى ينتمى إليه مبدعه، ولكن شريط الإبداع صار يخص العالم كله، وما يمارس على الفنان قبل أن يرى شريطه الحياة ويولد فى القاعات السينمائية المظلمة أصبح شعاعا يضىء الحياة كلها. وهكذا مثلا فإن المخرج الإيرانى الشهير جعفر بناهى لم تعد قضيته شخصية تعنيه هو بقدر ما صار اسمه يتجاوز الشريط الفنى الذى نتابعه ليصبح الشخص هو العنوان، وهو فى الحقيقة فى أواخر أفلامه صار يتحدث عن نفسه ويرى ما يجرى حوله، يقدمه لنا بعينيه، فهو طرف فاعل فى تلك الرؤية، وفى نفس الوقت يذوب تماما هذا الإحساس بالذاتية ليصبح فى لحظة الخاص جدا هو العام جدا، فأنت بقدر ما ترى المخرج يتحدث عن نفسه بقدر ما تتسع الدائرة ليصبح هو من يتحدث عنك أنت وفى نفس الوقت نرى كل المجتمع. عندما كنت فى طهران قبل نحو عامين فى زيارة مع وفد مصرى سينمائى وفنى كبير وقبل نهاية الرحلة عقدت ندوة مفتوحة مع وزير الثقافة فى حكومة نجاد، الرئيس الإيرانى السابق، وبدأ الحضور فى الحديث عن أوجه التعامل والمشروعات الفنية الممكنة بين مصر وإيران، وكانت بالفعل هناك حفاوة وسعادة ودفء فى المشاعر لا يمكن إنكاره، وطلبت الكلمة وقلت إننا بالفعل نرى سينما عظيمة فى إيران وننتطلع للمزيد من التبادل الثقافى، ولكن فى كل محافل الدنيا يتضامن كل السينمائيين مع المخرج الإيرانى الكبير جعفر بناهى وزميله محمد رسولوف اللذين صدرت بحقهما أحكام بالسجن ست سنوات، وفى نفس الوقت طبقا للقانون هما ممنوعان لمدة 20 عاما من ممارسة مهنة الإخراج، قلت وقتها إننى وغيرى نتضامن معهما خارج الحدود والآن صار علينا أن نتضامن هنا من طهران. سألت عن إمكانية أن يلتقى بناهى مع الوفد المصرى، ونفى وزير الثقافة تلك الحقيقة ولا أدرى كيف، وقال إنه لا يحاكم لأنه مخرج ولكن بقضية أخرى وهناك خلط فى الأوراق. ووعد بلقاء مع بناهى، وهو بالطبع لم يتحقق حتى نهاية الرحلة. تهمة بناهى أنه فى 2009 وقف مع التيار الإصلاحى ضد نجاد الذى كان يتطلع لولاية ثانية فاعتبروا أنه يزعزع الأمن القومى، وهو ما قاله الوزير وقتها بأنه لا يحاسب على إبداعه، ولكن الواقع يقول إن بناهى، 55 عاما، صاحب الموقف الفنى والسياسى الذى دفع ولا يزال الثمن، هو رهن الإقامة الجبرية لا يستطيع مغادرة البلد. قبل نحو ثلاثة أعوام عُرض له فى مهرجان كان فيلمه هذا ليس فيلما ، وكانت الأضواء تسلط فى الافتتاح على كرسى فارغ وعليه اسمه، لأنه ممنوع من السفر، حتى تصل الرسالة بأن المواهب لن تُقهر وما يمكن أن تمارسه الدولة على مبدع لا يعنى توقف تواصله مع الناس. تغير الظرف السياسى فى طهران مع تولى حسن روحانى مقاليد السلطة ولكن لا يزال الأمر كما هو، ربما أشعر فقط بقدر من التحرر لأن فيلم بناهى الذى قدمه فى زمن نجاد وأطلق عليه عنوانا ساخرا هذا ليس فيلما بغرض أن يقول إنه ملتزم بالحكم القضائى الذى يمنعه من الإخراج، وهو لهذا لا يقدم فيلما، جرى تصويره فى منزله ولم يغادر الموقع، وتم تهريب النسخة إلى كان على أسطوانة. هذه المرة انتقل بناهى إلى الشارع، أى أنه حصل على تصريح بالتصوير، وكانت الابتسامة لا تفارق وجهه من خلال فكرة التاكسى ، حيث وضعت الكاميرا على الزجاج الأمامى للسيارة وارتدى زى السائق، وفى اللقطات الأولى تبدأ مع الإشارة وتوقف السيارة لنرى بعيون السائق الذى هو بناهى نفسه ما يجرى فى المجتمع، تستطيع أن تعتبر من التقى بهم هم أقرب لعينة عشوائية لا تتعمد اختيارها ولكن تفرض نفسها بالصدفة. أفلام الطريق من القوالب الشائعة التى تمنح المتلقى متعة التنقل من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، المخرج حقق ما هو أبعد مع القالب التسجيلى، إذ إن الأحداث تنتقل بانسياب أكثر، وينقل هو بالضبط ما الذى تقوله الشخصيات، ربما ليست هذه فقط هى الشخصيات التى التقاها ولكنه أخذ بعضها حتى يتوفر لفيلمه السياق الذى أراده، إلا أنها فى كل الأحوال ظلت هى المُعبر عن المجتمع دون إجحاف أو حتى تعمد. سبق قبل نحو 13 عاما أن شاهدت فى كان فيلما للمخرج الإيرانى الكبير عباس كيروستامى الذى يحمل اسم عشرة ، يعتمد فى أحداثه على القالب الدرامى من خلال تاكسى، وتتعدد الشخصيات التى يلتقيها. هذه المرة نحن بصدد وثيقة سينمائية بامتياز وفى نفس الوقت تتجاوز ذلك لتصبح دلالة على ما يتمتع به بناهى فى الضمير الجمعى الإيرانى، أغلب من ركبوا بجواره يعرفونه، والأهم أنهم يقدرونه. يناقش بائع ال سى دى فى الأفلام، ويتوقف أمام شاب لا يعمل ويحاول أن يدخل إلى عقل طفلة يُطل منها على المحاذير التى تضعها الدولة على المجتمع مثل عدم ارتداء رابطة العنق، وكما تبدو مسألة شكلية وصغيرة ولكنها تعنى الكثير. بناهى هو واحد من أكثر المخرجين الإيرانيين الذين منحوا السينما الإيرانية صورتها المشرقة فى العالم كله، لم نكن فقط بصدد مخرج فى حالة ألق فنى ولكن الفيلم استفتاء على ما يتمتع به بناهى من حب وتقدير من الشعب الإيرانى لتصل الرسالة إلى شعوب الدنيا كلها من خلال تاكسى !!