ثار الشعب على جماعة تستخدم الدين فى كل ألعاب السياسة والنصب والاحتكار والقتل، فلماذا يلجأ الرئيس الذى انحاز للشعب فى ثورته إلى إدخال الدين فى معظم أحاديثه حتى ولو كانت عن الفن؟ بعيدا عن طبيعة تكوين الرئيس السيسى، وما إذ كانت سنوات عمره الأولى تشكلت فى بيئة مصرية تقليدية تضع الدين فى المرتبة الأولى، ويظهر فى خلفية كل الأفعال والقرارات، فالشاهد أنه خلال سنوات عمله الطويلة فى القوات المسلحة، تأصل لديه ذلك الشعور الدينى المتزايد، كون أن العمل فى الجيش تعلو فيه بشكل منطقى وطبيعى قيمة الدين، ذلك لأن العمل العسكرى فى مجتمعاتنا العربية يمزج بين الدافع الوطنى والدينى، ويُعلى كثيرا من قيمة الشهادة خلال الدفاع عن الوطن، الذى يتجلى غالبا فى العمل بالقوات المسلحة. لاحظ أن كل رؤساء مصر السابقين، الذين اشتركوا فى كونهم عملوا فى الجيش، كانت خطاباتهم ممزوجة غالبا باقتباسات دينية، أو تدعو إلى قيم مستلهمة من الإسلام، كان الأمر متوازنا إلى حد ما مع الرئيس عبد الناصر، الذى كان يخوض حربا داخلية مع الإخوان، وأخرى مع إسرائيل، فلجأ إلى هذا الخطاب دون إفراط، لكن الأمر وصل إلى حدود الدروشة مع الرئيس السادات، الذى كان أول من مزج بين كلمتى الرئيس و المؤمن ، والمفارقة أنه فعل ذلك بعد انتصاره فى حرب أكتوبر، وبعدما سمح للإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى بهامش للعمل السياسى فوق الأرض، بينما بدأ الرئيس مبارك أول حياته السياسية كرئيس بعبارة شعبية ذات مدلول دينى بامتياز، وهى عبارة الكفن مالوش جيوب ، واستمر فى هذا المنهج الربانى لسنوات محافظا على صورته أمام العامة، رئيس يحافظ على التقاليد الدينية والشعبية، وإن مال منذ ظهور نشاط نجله الأصغر السياسى مع بداية الألفية الثانية إلى التخفيف من هذه الصورة، ناقلا نفسه وأسرته إلى مستوى الأسر الرئاسية العصرية، التى تحافظ على القيم الدينية دون أن يعنى ذلك التزاما صارما بها فى الخطاب والشكل. لكن ماذا عن الرئيس السيسى؟ يبدو أنه يريد محاربة التطرف بالدين، هذا منهج سليم بكل تأكيد، لكن هل يصلح للتطبيق دومًا؟ فى حوار أجرى معه مع بداية العام الجديد فى جريدة الأهرام ، دعا الرئيس رجال الأعمال إلى أن يتبنوا مسابقة لأفضل فلاح وتلميذ وعالم، أحسن ما تعملوا مسابقة لأفضل راقصة ، هذا توجه أخلاقى وقيمى حسن بكل تأكيد، لكن هذا دور الدولة لا رجال الأعمال، الذين من حقهم اختيار المجال، الذى يستثمرون فيه أموالهم، طالما أنه مجال قانونى لا تجرمه الدولة، ثمة دور اجتماعى يجب على الأثرياء أن يقوموا به، هذا حقيقى، لكن البيزنس كما الحياة اختيارات، برنامج لأفضل راقصة لا بد أنه سيجلب إعلانات لا تقارن بتلك التى يمكن أن يجلبها برنامج آخر عن أفضل فلاح ، هذا عن البيزنس، هذا طرح يمكن أن يخرج من رجل دين يرى أن ذلك حرام وذاك حلال، لكن ما علاقة رئيس الجمهورية بتحديد الأكثر ملاءمة لأخلاق المجتمع ؟ فى احتفالات عيد الشرطة الأخيرة، وجه خطابا مباشرا للفنانين يسرا وأحمد السقا الحاضرين فى القاعة قائلا والله ربنا هيحاسبكم ، قاصدا إذ قدما فنا لا يدعو إلى الأخلاق.. حسنا هذا خطاب دينى يليق بداعية عصرى يشاهد السينما، ويكتب الروايات، ويصادق الفنانين مثل عمرو خالد، لكن من قال إن من سلطات رئيس الجمهورية أن ينذر الشعب بين الحين والآخر بأن ربنا سيحاسبهم ؟ الناس تحب السيسى واختارته عن وعى وإدراك بأنه الأنسب لهذه المرحلة الحرجة، هذه حقيقة لا تحتاج إلى كثير من الوعظ لتأكيدها، كل الأمل إذن أن يدرك الرئيس السيسى أن محاربة الإرهاب وتجديد الخطاب الدينى -وهما مهمتان ثقيلتان حقا أعانه وأعاننا الله عليهما- لا يستوجبان، مطلقا، أن يتحدث الرئيس، أى رئيس، دوما إلى الشعب بأن ربنا هيحاسبنا .