الأسبوع الماضى، مكان بالزمالك مغلق، أنتظر ميعاد عمل وصلت قبله بنصف ساعة، زحمة شباب أقل من عشرين عاما، صوتهم عالٍ كعادتهم، دخان سجائر يملأ الهواء، موسيقى بسكاليا الكئيبة لراجح داوود (موسيقى فيلم «الكيت كات»)، الإضاءة هادئة، وجدت أمامى ورقة معلقة بها ثلاثة تنبيهات، التنبيه الثانى كان: «احترام التقاليد المجتمعية فى إظهار العواطف» منذ ثلاث سنوات مكان بشارع 9 بالمعادى مغلق، أجلس مع صديقة، ذهبت إلى الحمام، وجدت بابه مفتوحا وداخله فتاة لا تزيد على 16 عاما تبكى. - مالك فى إيه؟ - ممكن تدخلى وتقفلى الباب وراكى؟ اعتقدت أنها شكوى نسائية، دخلت وأغلقت الباب، فأجهشت فى البكاء أكثر. - أنا مش ساكنة هنا، أنا ساكنة بعيد، أنا كنت... إحنا كنا واقفين أنا وصاحبى مع بعض على الكوبرى اللى هنا ده (ذلك كوبرى مشاة هادئ ومظلم مخصوص لطيارى ديلفيرى المطاعم الكثيرة المحيطة به)، وبعدين جه راجل بهدلنا، وكان هيضربنا، صاحبى قال لى امشى إنتى بسرعة، أنا فى الأول ما رضيتش أسيبه، بس الراجل بقى يزعق أكتر ومسكنا، وكان مصمم ياخدنا القسم، فجريت وسبته ودخلت أول مكان قابلنى، وأنا ماعرفش أى حاجة هنا . - طيب اهدى خلاص.. تحبى أوصلك بيتك؟ - ممكن توصّلينى لأقرب محطة مترو؟ خرجنا معا، كانت ترتعش خائفة أن يقابلها نفس الرجل مرة أخرى، كانت متشبّثة فى يدى بقوة وتتلفت يمينا ويسارا فى رعب، تشدنى كى أمشى أسرع، ركبت جانبى، وصلنا إلى محطة مترو ثكنات المعادى فى أقل من دقيقة لقربها من شارع 9 ، توقفت عن البكاء وشكرتنى. - شكرا جدا. قبل أن تفتح الباب، قالت لى: - تفتكرى هيقول علىّ ندلة علشان جريت وسِبته؟ ثم عاودت البكاء: - أنا والله ما بعيّط على اللى حصل، أنا زعلانة علشان هيقول إنى ندلة علشان جريت. ولم تنتظر رد، نزلت، جرت نحو شباك التذاكر، قطعت تذكرة الرحيل عن مكان لن تنسى ما حدث لها فيه، غابت وسط الناس عن رؤيتى. احترام التقاليد المجتمعية فى إظهار العواطف. لا أعرف ما التقاليد المجتمعية ولا أهتمّ بتعريفها، لكن الأكيد أن المجتمع الذى أصبحت تقاليده بلا مرجعية محددة جعل العين تتقبل مشهد رجل يتبوّل فى الشارع كأنه مشهد عادى، ولا تتقبّل مشهد اثنين يقبل أحدهما الآخر فى الشارع، كأنه مشهد قذر. مجتمع قبيح جاء صاحب موعد العمل، وكان أول شىء أقوله له رغم أنها أول مرة أقابله: بُص اليافطة الهبلة دى؟ فقال لى: جو منى العراقى أوى. وبدأنا الحديث عن العمل.