الخبر الذى نشرته صحيفة «الأهرام» المصرية فى 17 يناير 1982، عن امتناع الجالية الهندية فى جنوب إفريقيا، وذكرت فيه أن الزعيم الروحى لعدد من حركات المقاومة فى العالم المهاتما غاندى، هو المؤسس الأول للحركة الوطنية فى تلك البلاد النائية، ضد الاستعمار الإنجليزى البغيض، استدعى تداعى الذكريات التى راحت تتالى وتتراكم حول التكريس لاستلهام النضالات الغاندية، والكتابة عنها بغزارة، هذا التكريس الذى أحدثه المصريون فى مرحلة نضالهم ضد الإنجليز، والمحاولات المستميتة للتخلص من عدوانهم واستغلالهم واستبدادهم المقيت، وكتب أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدة رائعة عنوانها «فى غاندى.. بطل الهند»، وذلك عندما مرّ بمصر فى طريقه إلى إنجلترا ليحضر مؤتمر المائدة المستديرة، تحية من مصر إلى بطل الهند، واستهلها قائلًا: (بنى مصر ارفعوا الغار وحيوا بطل الهند وأدّوا واجبا واقضوا حقوق العلم الفرد). .... حتى قال: (سلام النيل يا غاندى وهذا الزهر من عندى وإجلال من الأهرام والكرنك والبردى ومن مشيخة الوادى ومن أشباله المرد). وبالإضافة إلى التغطيات الغزيرة التى كانت تكتبها الصحف والمجلات لكل التحركات والمواقف الغاندية فى أثناء النضال العالمى ضد الاستعمار بكل صوره، تضامنا مع الحركة الوطنية الهندية، ضد المستبد والغاصب الإنجليزى، كتب عدد لا يستهان به من كبار كتّاب مصر عن غاندى ومدرسته وأفكاره، ومساره غير التقليدى فى المقاومة، هذا المسار الذى ساد فى عدد من المستعمرات الإنجليزية فى العالم. وكان على رأس هؤلاء الكاتب الطليعى الحر سلامة موسى، الذى كتب عندما أعلن الزعيم للهندى دعوته بالكف عن العصيان المدنى، فاعتقد الناس أن غاندى فشل فى مسعاه، ولذلك فهو يرفع الراية البيضاء أمام المستعمر، ويبطل النضال المسلح والعنيف، وأوضح موسى أن غاندى لا يلتزم بطريقة واحدة للنضال، وأن خبر الكف عن العصيان المدنى، يعنى لدونة الذهن وكراهة الجمود، فإن غاندى لا يختط الخطط لكى يعبدها، بل ليستخدمها وهو يسارع إلى نبذها إذا تبين له فشلها . ويستعرض موسى تاريخ الهند مع الاستعمار البريطانى، عندما استولت شركة الهندالشرقية، والتى كان يملكها بريطانيون، على كل مقدرات الهنود، وراحت تحدد مصائرهم، هنا ثار الهنود على هذا الاحتكار الغاشم عام 1857، ولكن الإنجليز أخمدوا هذه الثورة بعنف، ومنذ ذلك الوقت بدأ تخريب الاستعمار للهند، وعمل على تعويقها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ورغم ذلك انتفع الهنود -كما يقول موسى بدخول الثقافة الغربية إلى البلاد. أما الكتاب الثانى فكان للكاتب الكبير عباس محمود العقاد، وعنوانه روح عظيم.. المهاتما غاندى ، وبدأه بقصيدة اشتباكية يقول فيها: (زاهد الهند نعى الدنيا وصام أنا أنعاها، ولكن لا أصوم طامع الغرب رعى الدنيا وهام أنا أرعاها، ولكن لا أهيم بين هذين لنا حد قوام وليلم من كل حزب من يلوم). هذه الأبيات الشعرية التى كتبها وأوردها فى مستهل الكتاب، تعنى أن هناك وجهة نظر خاصة جدا يتبناها، وبالفعل أمتعنا العقاد فى كتابه الفريد، وقلّب وجوه غاندى على أكثر من احتمال، ولذلك كان لا بد أن يعطى مقدمة نظرية -كعادته- فى تفسير الآفاق الإنسانية الرحبة التى لا بد أن تتوفر فى الزعماء عموما، بل إنها حق وليست واجبا، وعلى اشتراك الكثيرين قديما وحديثا فى هذه الآفاق الإنسانية، إلا أن كل عظيم يستطيع أن يقدم أشكالا مختلفة لهذه العظمة، وكان غاندى جديرًا بذلك بشكل مذهل. بعد ذلك تعرض العقاد لنشأة غاندى، ولظروف عائلته الاجتماعية، فتعلم من أبيه كرمشاند الكثير، كما أنه تشبع بمختلف أشكال الآداب العامة من أمه بوتلباى ، ومنها تلقى إيمانه بالصيام، هذا الصيام الذى لازمه طوال حياته السياسية، كذلك أخذ منها الإيمان بعقيدة الجينية، فى الأهمسا ، أو الكف عن العدوان كما يفسرها العقاد. الكتاب رحلة عميقة وواسعة فى حياة القديس الذى مات مغدورا فى سبيل الوطن والحق والعدالة، وتتسم كلمات العقاد الذى ينهى بها الكتاب مفعمة بالأسى والحزن وهو يقول: رجل رفع أبصار الناس إلى أوج السماء، فهبط به قاتله إلى قرار الجحيم.. رجل وهب الهند حريتها، فسلبته الهند حياته، رجل أراد أن يمسح العدوان من ظهر الأرض، فمات معتدى عليه . ويأتى الكتاب الثالث المهاتما غاندى.. حياته وجهاده للشاب اليافع والوطنى، والذى يتفجر نشاطا وحماسا المحامى فتحى رضوان، ابن الثالثة والعشرين من العمر، وأصدر هذا المجلد الكبير فى مايو 1934، وتناول سيرة الزعيم من زوايا شاب طموح، يعلّق آمال وطنه كلها على وحدة الشرق فى مواجهة عصابة الغرب، وكان الكتاب ضمن حملته هذه التى يرى أنها الخلاص الأمثل للبلاد، أن يتوحد الشرق عموما بثقافاته المتعددة، وسياساته المختلفة، وبعقائده ودياناته المتعددة، والذين يقرؤون تاريخ فتحى رضوان، سيدركون أن وحدة الشرق هى الركيزة الأساسية التى انبنى عليها نضاله لأكثر من خمسين عاما. وفى بداية الكتاب راح رضوان يوجّه رسالة إلى الزعيم، ويذكر فضله عليه، رغم أنهما لم يلتقيا، ولم يتعارفا بأى شكل من الأشكال، ولكن -كما يرصد رضوان- المهاتما انتشله من حيرة مؤكدة فى الحياة والمصير والإنسانى عموما، وذلك عندما قرأ سيرته ذات يوم، وفعلت هذه السيرة فعلها الجبار فى تغيير مسار حياة فتحى رضوان، وما هذا الكتاب الذى يرصد ويناقش ويتأمل حياة القديس، إلا ردّ الجميل لهذا الزعيم العظيم، ولا تحتمل السطور القليلة، عرض هذا الكتاب المهم، ولكننى أردت الإشارة إليه فقط. أما الكتاب الرابع، ضمن الإصدارات المصرية فى ذلك الوقت، فسيرة مهاتما غاندى كما كتبها بقلمه، ونشرها أحد مريديه الإنجليزى مستر أندروز، وترجمها الكاتب والمفكر إسماعيل مظهر، وكتب مقدمة تحدث فيها عن بلاد الهند العظيمة، وعن الإمبراطورية التى لا تغيب الشمس عن أملاكها، يقصد بريطانيا العظمى ، كما كانت تنادى فى تلك الأيام، هذه الإمبراطورية يقيمها ويقعدها هيكل بشرى من الدم واللحم والعظام، لا يزيد وزنه على وزن كرة مدفع من أصغر مدافع بريطانيا العظمى، وأما هذا الهيكل البشرى الضئيل، فغاندى العظيم . ينتهى مقالنا ولا تنتهى حالة التأمل التى تنتابنى عندما تتداعى الذكريات حول علاقة المصريين بالشعب الهندى على مدى القرن العشرين كله، هل وحدة المصير، هل هو الاستعمار، هل الثقافات الروحية المتعددة؟ ربما كل ذلك وأكثر طبعا.