أبهرت مصر العالم بثورتها، فمد يده إليها بالمساعدات، لكن عطاء هذه المساعدات ذهب مع الريح! فالمساعدات سقطت فى ثقوب الاقتصاد المصرى، التى تتنوع بين الفساد إلى جهل الإدارة وترهلها! ومن الثقوب التى نشير إليها فى هذا المقال ما نسميه «أنيميا التجارة الخارجية»، وهو مرض حاد مزمن تظهر أعراضه فى العجز المستمر فى ميزان التجارة السلعية. وعلى الرغم من خطورة أنيميا التجارة الخارجية فإن صناع السياسة الاقتصادية إما أنهم يتجاهلون المرض، وإما أنهم يجهلونه! وليس العجز مرتبطا بعدم الاستقرار الأمنى والسياسى المصاحب لسنوات الثورة، فالأرقام تشير إلى أنه زاد من 34 مليار جنيه عام 2001 ليبلغ 187.5 مليار جنيه فى عام 2010. أى أنه زاد بنسبة 550% خلال عشر سنوات! فهل تتوفر لدى الحكومة استراتيجية لمكافحة أنيميا التجارة الخارجية ؟ أشك كثيرا. ومن الضرورى أن ندرك أن الاستهلاك المحلى هو المحرك الرئيسى للنمو الاقتصادى فى مصر، وهو ما يعنى أن النمو يتحقق بزيادة السكان، وبزيادة النقود المتداولة، وليس عن طريق زيادة الاستثمار أو التصدير، ولذلك فإن مؤشرات النمو لا تعكس المستوى الاجتماعى أو تحسن نوعية الحياة للمواطنين. ويجب أن ندرك كذلك أننا نصبح كل يوم أكثر اعتمادا على الخارج فى سد احتياجاتنا الاستهلاكية، وهذا يعنى أننا ندفع من أموالنا نسبة أكبر للمنتجين أو الموردين الأجانب الذين نستورد منهم ما نحتاج إليه من سلع. ومن المدهش أن صناع السياسة الاقتصادية لا يهتزون لأرقام خطيرة تكشفها معاملاتنا مع الخارج، كأنهم بذلك يحاولون البرهنة على صلابتهم! وتظهر الأرقام التقديرية لمعاملاتنا الخارجية فى السنة المالية الأخيرة 2013/2014 صورة شديدة الكآبة عن قدراتنا الإنتاجية المتدهورة، وعن زيادة اعتمادنا على الاستيراد من الخارج فى كل القطاعات السلعية بلا استثناء، بما فى ذلك القطن الخام ومنتجاته، والنفط الخام ومنتجاته! نعم تظهر الإحصاءات أن الميزان التجارى فى السنة الأخيرة سجل عجزا فى ميزان الطاقة بقيمة 794 مليون دولار مقابل فائض بقيمة 899 مليون دولار فى السنة السابقة 2012/2013. كما سجلت الإحصاءات عجزا فى ميزان الحبوب السلع الغذائية (8.3 مليار دولار)، وفى ميزان القطن والمنتجات القطنية (968 مليون دولار)، وفى ميزان الكيماويات والأسمدة (2.7 مليار دولار)، وفى ميزان الآلات والأجهزة الكهربائية (4.8 مليار دولار)، وفى ميزان المعادن والمنتجات المعدنية (3.6 مليار دولار)، وفى ميزان المركبات ووسائل النقل (4.2 مليار دولار)!! أين هى إذن قدراتنا التنافسية فى مجالات الإنتاج المختلفة؟ الأرقام التى لا تكذب (محسوبة بالسعر الرسمى للدولار وليس بأسعار السوق) تصدمنا بعنف وتقول لنا بقسوة: أنتم فاشلون، أنتم تأكلون وتلبسون وتركبون من إنتاج الغير، وتستوردون كل ما تحتاجون إليه من الخارج! السادة الذين يتحدثون عن استراتيجيات للتنمية، وعن مضاعفة الصادرات، وعن زيادة القدرات التنافسية للمنتجات المحلية إما أنهم يخدعون أنفسهم، وإما أنهم يجهلون حقائق الأمور. ومن الخطير أننا فى السنة المالية الجديدة لا نبدو أحسن حالا من السنة الماضية. نعم، فالمؤشرات الرسمية تشير إلى أننا نتحرك من سيئ إلى أسوأ. الإحصاءات الرسمية تقول إن العجز فى الميزان التجارى زاد بنسبة 29% فى الأشهر الثلاثة الأولى من السنة المالية 2014/2015، ليبلغ 9.7 مليار دولار، وهذا يعنى أننا نكد ونعمل ونقترض ونحصل على مساعدات ونربط الأحزمة ونعانى، من أجل أن نسدد للمنتجين الأجانب فواتير الاستيراد. إننا ندفع نسبة متزايدة من إيراداتنا للمنتجين الأجانب، لكى يزيدوا استثماراتهم، ومصانعهم، وعمالهم، وذلك بدلا من أن نستخدم هذه الإيرادات فى زيادة الاستثمارات المحلية. إن كل مليون دولار ندفعها فى تمويل الواردات تعنى بالنسبة إلينا التضحية بما يقرب من 70 فرصة عمل، وهذا يعنى أن تحقيق توازن الميزان التجارى بما يقضى على العجز البالغ نحو 25 مليار دولار يمكن أن يضيف إلى الاقتصاد المصرى ما يقرب من مليونى و770 ألف فرصة عمل، بافتراض أن تكلفة فرصة العمل تبلغ فى المتوسط 100 ألف جنيه! إن مصر، وهى تضحى بدماء أبنائها فى الحرب على الإرهاب، يجب أن تعلم أن الحرب على الفقر والبطالة والفساد لا تقل خطورة. ومهما كانت مرارة التضحيات، فإن العائد منها سيتضاءل إذا لم ننجح فى إدارة الاقتصاد بما يؤدى إلى تقليل اعتمادنا على الآخرين، وزيادة اعتمادنا على أنفسنا. إن اعتماد مصر على المساعدات الخارجية زاد فى السنوات الأخيرة إلى معدلات غير مسبوقة، إذ حصلت الخزانة منذ قيام ثورة يناير حتى الآن على مساعدات خارجية تصل إلى ما يقرب من 200 مليار جنيه، أى ما يعادل 10% من إجمالى الناتج المحلى للبلاد. وترافقت هذه المساعدات مع زيادة هائلة فى التمويل بالعجز عن طريق الاقتراض من الجهاز المصرفى المحلى. ولن تكون مصر أبدا فى مأمن وهى تقترض لكى تأكل وتلبس وتشرب وتتنقل! مصر فى حاجة إلى الاعتماد على نفسها. وقد برهنت السنوات القليلة الماضية، أن المساعدات الخارجية الضخمة التى حصلنا عليها، ذهبت مع الريح.