إذا اتفقنا على أن الحرب على الإرهاب ومواجهته تعتبر حربا فكرية - سياسية قبل أن تكون أمنية - عسكرية ، وأن مسؤولية هذه الحرب هى مسؤولية مجتمعية وليست فقط مسؤولية حكومية، فإن المعضلة تبقى متركزة فى الإجابة عن سؤالين: كيف للمجتمع بقواه المتعددة: المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية، والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدنى أن تقود حربا فكرية - سياسية ضد الإرهاب، وأن تكسب هذه الحرب وهى غير مسلَّحة بذخيرة كافية من مصادر الفكر الإسلامى ومدارسه المختلفة؟ وكيف لهذه الأطراف جميعها، وفى مقدمتها الأزهر الشريف والأوقاف ودار الفتوى، أن توظف هذه الذخيرة الفكرية - المعرفية فى حالة توافرها فى خوضها للحرب على الإرهاب؟ الإجابة عن هذين السؤالين، وغيرهما، ما زالت متعثرة لافتقاد كل هذه الأطراف للتواصل وعلاقات التفاعل بينها وبين بعضها البعض، وبينها وبين الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث المصرية والعربية والإسلامية، ناهيك بافتقاد هذا التواصل والتفاعل فى ما بين تلك الجامعات ومراكز البحوث والدراسات وطمس الإنتاج العلمى الهائل لهذه الجامعات والبحوث داخل مخازن تلك الهيئات ومكتباتها الخاصة دون أن يحظى بفرص النشر المختلفة بحيث يصل بيسر وسهولة إلى المتلقى المعنى بخوض الحرب على الإرهاب، وفى مقدمته بالطبع الرأى العام الذى هو المادة الخصبة التى يرجى التنافس عليها بين الإرهابيين ومنظماتهم التكفيرية وبين الدولة والمجتمع بأجهزتهما ومؤسساتهما. هذه المعضلة أمكن تحقيق اختراق مهم لها من خلال ما أشرت إليه فى مقال الأسبوع الفائت، وبالتحديد تلك التجربة الرائعة والرائدة للتعاون بين اتحاد جامعات العالم الإسلامى والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو وجامعة القاهرة. وكانت ثمرة هذا التعاون تلك الندوة الفريدة من نوعها التى حملت عنوان: تحليل الأبعاد الإسلامية فى الرسائل العلمية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة والتى عقدت على مدى يومين (17- 18 ديسمبر 2014) بجامعة القاهرة. فقد كشفت هذه الندوة التى أشرفت عليها الأستاذة الدكتورة حورية توفيق مجاهد عن توفر كنز معرفى وثروة لا تقدر بثمن استطاعت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تحقيقها فى الفترة من 1969 - نوفمبر 2014 فى رسائل جامعية الدكتوراه والماجستير بلغ عددها 109 رسائل ذات أبعاد إسلامية، حيث اختص قسم الاقتصاد ب14 رسالة، واختص قسم العلوم السياسية ب95 رسالة انقسمت إلى 15 رسالة فى حقل العلاقات الدولية، و34 رسالة فى حقل النظم السياسية والإدارة العامة، و46 رسالة فى الفكر السياسى والنظرية السياسية. فقد اهتمت الرسائل العلمية فى حقل الاقتصاد بمختلف أبعاد الاقتصاد من المنظور الإسلامى، بداية من الفكر الاقتصادى، حيث توجد رسالة ناقشت الفكر الاقتصادى للماوردى، كذلك ديناميكية الاقتصاد الإسلامى، مرورا بدور الزكاة والأوقاف فى الاقتصاد ووصولا إلى دور المؤسسات الاقتصادية، خصوصا البنوك الإسلامية وعلاقتها بالبنك المركزى، ودورها فى الاستثمار وطبيعة الأرباح المصرفية، بالإضافة إلى دورها فى عملية التنمية العربية، بجانب تناول ظواهر اقتصادية تأثر بها العالم العربى مثل شركات توظيف الأموال. وحظى قسم العلوم السياسية بالعدد الأكبر من الرسائل العلمية التى اهتمت بالظواهر السياسية ذات الأبعاد الإسلامية. وتنوع التناول بين تخصص الفكر السياسى والنظرية السياسية، والعلاقات الدولية والنظم السياسية. ففى مجال الفكر السياسى تناولت الرسائل الأطروحات الفكرية التى قدمها المفكرون السياسيون الذين اختبروا الحياة السياسية وعبروا عن الواقع السياسى مع إسهامات المتخطين للعصور مثل أبو نصر الفارابى، وابن رشد، وابن تيمية، وابن خلدون، والإمام الجوينى، والإمام محمد عبده، وحسن البنا، وعبد الوهاب المسيرى، وحسن حنفى وحامد ربيع وغيرهم. وقد تناولت رسائل تخصص النظرية السياسية الأطروحات المختلفة التى ساقها الباحثون والتى عرضت للفكر السياسى الإسلامى والنظرية السياسية الإسلامية فى فترات مختلفة. فهناك الرسائل التى تناولت العلوم السياسية فى فترة الخلافة الراشدة، ومفهوم الاختيار عند المعتزلة والفكر السياسى الشيعى، والعلويين فى الفكر السياسى، هذا فضلا عن الرسائل التى تناولت الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية والمصلحة العامة، والعدالة، والعمران، وأدب النصيحة، والشرعية فى الخبرة الإسلامية، ومفهوم الهوية، ومفهوم حوار الحضارات عند بعض المفكرين المعاصرين مثل على شريعتى وسيد قطب ومالك بن نبى وغيرهم. ومن جانب آخر هدفت موضوعات بعض الرسائل إلى كشف الغموض والالتباس الذى يحيط ببعض المفاهيم مثل الجهاد والمقاومة، والاختيار، والتجديد. وفى مجال النظم السياسية اختلف محور التحليل، فبينما اهتم بعض الرسائل بدراسة المؤسسات مثل الدور السياسى للمسجد ، الدور السياسى للأزهر ، و الدور السياسى للجمعيات الأهلية الإسلامية فى مصر ، و دور الطرق الصوفية فى التنشئة السياسية فى مصر ، اهتم بعض الدراسات الأخرى بدراسة العلاقة بين مجموعات أو جماعات أو حركات بالنظام السياسى منها الحركات السياسية الثورية فى صدر الإسلام ، و الأقليات والممارسات السياسية فى الخبرة إسلامية ، و دور رجال الدين فى الثورة الإيرانية ، و العلاقة بين النظام السياسى والحركات الإسلامية فى مصر . هذه بعض نماذج الدراسات الموجودة فى هذا الكنز الذى تحتويه كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهناك كنوز أخرى لا تقل أهمية فى كليات الحقوق ودار العلوم والآداب لها علاقة بالمنظور الإسلامى، لكن يبقى التحدى قائما إذا ما ظلت هذه الكنوز محجوبة عن التداول والتفاعل، وإذا ما كنا نريد مواجهة الإرهاب فمن هنا نبدأ.