«أصل خياله واسع شوية».. هذه إحدى جمل كثيرة تصف الكذب، والمعنى واضح، خياله يتجاوز الواقع ويصف ما لم يحدث، ولكى يكون المرء صادقا لا بد أن يصف تماما ما «وقع». «سرقت كام فرخة؟» «سرقت فرختين». «وكام مرة سرقت؟» «كل أسبوع وقت صلاة الجمعة من عشر أسابيع». هذا ما حدث بالفعل، فهل هو الحقيقة؟ ربما، لكن ببعض الخيال قد نصل إلى الحقيقة، إذا علمنا مثلا أن هذا الرجل يسرق الفراخ من النساء اللاتى يعشن وحدهن فقط، أو علمنا بالإضافة إلى ذلك أنه يعيش فى منطقة بؤس تلاصق منطقة ثراء لكنه لا يسرق إلا البؤساء، فربما يتسع بنا الخيال فجعلناه يأكل مال ابنة أخيه اليتيمة. ولو علمنا أنه يظهر أمام الناس بمظهر التقى الورع، وأنه فى غير صلاة الجمعة يؤم الناس فى المسجد، فربما اتسع بنا الخيال فجعلناه محتالا دوليا يطلبه الإنتربول، ربما علمنا أنه سرق من قبل ثعلبا وليدا من حديقة الحيوان، وأنه يسرق هذه الفراخ لكى يطعمها له، وأدركنا أنه لا يقول الحقيقة ليس هربا من الإدانة، فما قاله كفيل بإدانته، وإنما لأنه مصر على نجاح مشروع تثمين الثعلب ثم قتله وبيع فرائه، إذن لحولناه بخيالنا إلى.. الحقيقة الروائية قد لا تتفق بالضبط مع ما حدث واقعا، لكنها أصدق منه، لأنها تتجاوز الحادث المفرد والكلمة المفردة وتبحث عن النسق، عن القانون الخاص الذى يحكم الحوادث والكلمات التى تخرج من شخص بعينه، عن المعادلة الجبرية التى تختزل خليطه النفسى والجنسى والاجتماعى. الحقيقة الروائية أصدق من «الواقع»، لأن الصدق يجب أن لا يظل مرهونا بالتلقى، يجب أن لا تتركه مرهونا بتفضل الآخر عليك وإبلاغك ب«الحقيقة»، بل يجب أن تكون من الحصافة، بحيث تسمع الحقيقة، وإن دخل أذنيك الكذبُ، الحقيقة الروائية تحمينا من الخديعة وتعلمنا التحسب لما هو آت، وهل اخترع الإنسان فضيلة الصدق وجعلها فضيلة إلا لتحميه من الخديعة ومن الغدر؟! هل جربت أن تنام وفى ذهنك مسألة رياضية لم تستطع حلها، ثم أفقت وقد رأيت الحل واضحا؟ هل جربت أن ترهقك مشكلة ثم رأيت فى منامك رؤيا أو سمعت فى عقلك صوتا يخبرك بما لم تدركه وأنت يقظ ونشط وغارق فى التفكير؟ هل تعرف ما حدث؟ لقد تخلص ذهنك فى نومك من المشتتات، من نوازع النفس، من الرغبات، من العواطف، التى يستخدمها الكذابون لخداعك بالبكاء أمامك تارة أو بإشهاد الله والأحباء تارة، ونفذ إلى جوهر ما حدث، ثم أعطاك الحل هل هيئة رواية أو قصة قصيرة أو لوحة سريالية (حقيقة روائية). لقد حول ذهنك ما حدث إلى معادلة جبرية: س+ص÷أ= ع (حقيقة روائية). جاء رجلان إلى ابن سيرين، مفسر الأحلام الأشهر فى التاريخ الإسلامى، ورويا له نفس الحلم، أنهما يؤذنان، لكنه أخبر أحدهما أنه سيذهب إلى الحج وأخبر الآخر أنه سيضبط متلبسا بالسرقة. ماذا فعل ابن سيرين؟ شغل خياله، أولا: كلا الرجلين رأى فى منامه رواية عن نفسه. ثانيا: الرواية التى رأياها مستمدة من ثقافتهما. ثالثا: حدد ابن سيرين دلالتى الرواية كما يعلمها عقل ابن هذه الثقافة. رابعا: نفذ إلى جوهر شخصيتهما من مظهريهما وطريقتى كلامهما ونبرة صوتيهما وغيرها من العوامل النفسية والاجتماعية التى استطاع أن يعلمها عنهما. أدين رجل بالسرقة فبكى وطلب العفو من على ابن أبى طالب، قائلا: اعف عنى فتلك أول مرة. فرد عليه على: كذبت، فإن الله لا يفضح العبد من أول مرة. إن الله يفضح العبيد أحيانا من أول مرة، لكن عليا علم بخياله الواسع أن الرجل يكذب، والكذب لا يعنى دائما تزييف الوقائع، بل كثيرا ما يعنى اختصار «الوقائع». وحده الخيال يستطيع أن يأتى بما غاب من الوقائع من مدفنها، ويكسوها لحما وجلدا، وينفخ فيها الروح.