فى مارس 2011، وثورة يناير لا تزال طازجة كحزمة زرع خرجت للتو من الأرض، ملتهبة ومتقلبة وقلقة كأرواح شبابها، جاءنى العرض: قناة «الجزيرة» التى كنا ننظر إليها باعتبارها الذراع الإعلامية للثورة ستفتتح قناة جديدة تحمل اسم «الجزيرة مباشر مصر» ومن قلب القاهرة، ماذا ستقدم يا أخينا وقد انتهت الثورة على خير ومبارك تنحى «كنا سُذجًا طبعًا كما تعرف»، يأتيك الرد: ستعمل من أجل حماية الثورة ومكتسباتها.. معانا ولّا مع الناس التانيين؟ معاكم طبعًا وهل هناك «ناس تانيين» كلنا أبناء الثورة! هكذا فى الأول من شهر أبريل التالى، وجدت نفسى أعمل فى وظيفة فضائية معتبرة يعرفها أهل الوسط ب منتج الهواء ، وهو شخص عليه أن يلعب أكروبات يومية، ليكون مسؤولا عن بث محتويات القناة على الهواء، وينسق مع الضيوف القادمين من كل فج عميق، ويصرخ فى أذن المذيعة أو المذيع بأنه ارجع للموضوع بلاش الضيف يسرح بيك ، أو خمس دقائق ونطلع فاصل . بعد أسبوعين فقط، أدركت أننى لست هذا الفتوة ، وأن هذه المهنة لها ناسها الذين يتحملون هذا الضغط العصبى والذهنى، وأنى سأترك هذا المكان فى القريب، لكن الأمر لم يكن كذلك فحسب . لم تكن هناك تعليمات مباشرة بضرورة تلميع أبناء الإخوان ، أو تبنى خطاب إسلامى، لكن ذلك ما كان يحدث بالفعل دون أن يصدر قرار، وبتوافق ضمنى بين كل العاملين فى القناة، كأنه دستور محفوظ، لكنه غير مكتوب. وجد المرء نفسه متورطا فى تقديم محتوى ظاهره محايد وباطنه منحاز، وبطريقة باطنية إخوانية أصيلة من نوعية لا بد من كل الآراء أن تظهر فى الحلقة الواحدة ، كيف يحدث هذا يا جماعة، والضيفان أحدهما إخوانى والآخر سلفى؟ هذا هو الرأى والرأى الآخر! لم تكن هذه القاعدة قطعًا، وفى أوقات عدة كان السيرك التليفزيونى ينصب استنادًا إلى نظرية واحد ليبرالى لطيف وإخوانجى شرس ، طبعًا هذه معادلة، نتيجتها انسحاق لرأى على حساب آخر، خصوصًا مع وجود مذيع يدرك سر الصنعة ، فتنتهى حلقات صراع الديكة ، بانتصار دائم للديك الإسلامى، وبعبارة نستودعكم الله ونراكم غدًا . موقف القناة من المظاهرات المتضامنة فى القاهرة مع التحركات الشعبية فى سوريا، التى بدأت فى مارس 2011 كان غرائبيا، كنا نذيع نشرة الأخبار متضمنة خبرًا مصورًا عن مظاهرة للسوريين فى ميدان التحرير ضد نظام بشار الأسد، عندما صدرت التعليمات سريعًا بأن لا نهتم بمثل هذه الأخبار بعد ذلك، وأن نتجنب عرض هذا الخبر بتغطية مصورة قوية، نسأل لماذا يا قوم؟ ، تأتى الابتسامة الغامضة وكلمة واحدة: الدوحة ، ثم صمت مريب. بعد أسابيع قليلة انقلب هذا الغموض وهذه التعمية المتعمدة إلى تغطية صارخة منحازة، تتحدث عن مظاهرات حاشدة ترج سوريا وصداها ينتقل إلى القاهرة تهتف بسقوط نظام بشار، وتتبنى علم المعارضة المنسوخ من علم سوريا الأصلى، ما الذى تغير، تأتى الابتسامة الغامضة وكلمة واحدة: الدوحة ، ثم صمت لم يعد مريبًا هذه المرة. بعد ثلاثة أشهر تركت العمل فى الجزيرة مباشر مصر ، وبعد ذلك التاريخ بثلاث سنوات ونصف فقط أغلقت القناة وأظلمت شاشتها ك لعبة فيديو جيم ، نزع أحدهم الكهرباء منها فجأة، وموقعها الإلكترونى الذى كان ممتلئًا ب الزخْم الثورى ضد انقلاب 30 يونيو الذى يترنح ، اختفى تمامًا من الشبكة العنكبوتية، وأصبح أثرًا بعد عين، ولعلك الآن تعرف أن السبب ليس من أجل المصالحة مع مصر، أو البحث عن المصلحة فى العلاقات مع دول الخليج، أو فى استثمارات مستقبلية فى قاهرة ما بعد الانقلاب ، أو حتى من أجل صناعة دور أكثر فاعلية فى عَرْكة داعش وخناقة ليبيا ، الأمر أبسط من ذلك كثيرًا.. ابتسامة غامضة وكلمة واحدة.. الدوحة .