لا أعرف لماذا يتخللني شعور بالكآبة من مشهد الڤاترينات وإضائتها الزائدة ووجوه المانيكانات الصامتة وكأنهم مقهورين. لا أرى فرق بين ڤاترينا بوسط البلد وڤاترينا بسيتي ستارز سوى في اختلاف أسعار وجودة المعروض للفرق بين طبيعة المشتري، كل الڤاترينات لها نفس الغرض، وتشبهنا. بقصد أو بدون قصد، كلنا ڤاترينات متحركة. كلا منا يعرض في الواجهة أحلى ما عنده وأكثر ما يثق في التمكن منه وفي تأثيره على عقل الآخر. لا نعرض الأقيم ولا الأهم، ولكن الأكثر قبولًا. خفيف الدم، يهُرج كثيرًا ويُخرِج من أي موضوع أو موقف نكتة نضحك عليها بداعي أو بدون داعي، حتى لو هو شخص مكتئب وله ألف جانب مُظلم. المثقف، يتحدث عن الروايات والأفلام والعيوب الفنية لآخر عرض مسرحي مستقل حضره، حتى لو مل الحديث عن تلك الأشياء المكررة. السياسي، يقارن بين الثورات في بلاد العالم ويشرح بمنتهى الحماس مصير دولتنا مع ظهور عرقين على جبينه الأحمر من شدة الانفعال، حتى لو هو أكثرنا إحباطًا ويعلم أن مصيرها واضح لا يستحق تعب النقاش حوله. المُسافر، يتكلم عن البلاد التي زارها وخططه للبلاد التي سيزورها وعن متعة اكتشاف عوالم أخرى، حتى لو كان وحيدًا ولم يعد يحب السفر وحده. الناجح، يعرض إنجازاته المهنية ويتطرق لتفاصيل تكنيكية لن يفهمها إلا من يمتهن مهنته، حتى لو نجاحه المهني يقابله فشل اجتماعي حاد. الموسيقي، يدعوك إلى حفله القادم ويهديك "السي دي" الخاص به مع توقيعه، حتى لو تعب من عدم التقدير العام لموسيقاه وتوقعه للاعتزال قريبًا والتقدم لوظيفة في بنك. البوهيمي، يتجلّى في حب حياة اللا قيود التي يعيشها وفي متعة الحرية التي لا يعرف مذاقها الخاضعون للقواعد العالمية للمعيشة، حتى لو كان تعيس لفقره المادي الملحوظ. الجميلة لا تهتم كثيرًا بعرض ذكائها لأن ثقتها أزيد في ثأثير جمالها. الذكية لا تهتم كثيرًا بعرض جمالها لأن ثقتها أزيد في ثأثير ذكائها. وهكذا... بقصد أو بدون قصد، كلنا ڤاترينات متحركة؛ كل منا يعلم جيدًا ما يمكن بيعه سريعًا، من سيشتري ذلك ومن لن يدفع قرشًا فيه. ومع الوقت والسن والخبرة والتوقعات الخائبة والصائبة، نعرف الأشياء المشتركة التي تم بيعها لأكبر عدد ممكن، فنزيد من عرضها في الڤاترينا ونلملم الأشياء التي لم تعجب الأغلب لنخفيها في المخزن حتى لا ينفر أحد منّا. حين تأتي المرحلة الأكثر مصداقية وهي دخول الزبون المحل. قد يجد أحلى أو أسوء من المعروض، قد يجد أنه كان مجرد "جر رجل" وأن هذا المحل لا يناسبه إطلاقًا، وقد يجد ما يناسبه بل ما يحتاجه ولكن به عيب واضح في الصُنع يمنعه من الشراء، وقد يجد مفاجآت لم يتخيل وجودها، وإما أن يشتري فقط ما أعجبه في الڤاترينا ويرحل دون عودة ودون حتي أن يتذكر اسم المحل، إما أن يظل زبون دائم يعرف جيدًا أن جودة ما فى المخزن الضيق المهجور أفضل بكثير مما يتم عرضه للكل في الڤاترينا. انعكاس الڤاترينات ليس إلا انعكاس لمتطلبات السوق والمجتمع والذوق العام، تمامًا كانعكاسنا. حين تنطفئ أنوار الڤاترينات في آخر كل يوم وتتوارى عنها كل الأعين المُحدقة يظهر واقعها الهادي والعادي والحزين، مثلنا حين تنطفئ أنوارنا في آخر كل يوم. واللوم ليس على أصحاب الڤاترينات الثابت منها والمتحرك، اللوم على عيون تخدعها الأضواء والألون واللمعان من خلف حواجز زجاجية.