تطالعنا المذيعة التى تعلن القناة التى تعمل بها أن برنامجها هو أجرأ البرامج، وتقول جملة تؤكد بها شجاعتها «اللى يمشى شمال ياخد باله لإننا ممكن نكون بنصوّره»، ثم تنزل موسيقى تحمل معنى الإثارة.. وآه من تلك الإثارة، التى يرتكب باسمها الإعلام جرائم تُعد ولا تحصى، مهنيا وأخلاقيا وإنسانيا، فمن برنامج يقوم أساسًا على فكرة التسجيل الصوتى لبشر يتهمهم المذيع بالخيانة والمؤامرة ضد الوطن، ولكى يثبت نظريته التى يقوم البرنامج عليها، ويقبض مرتبه بسببها، فإنه يركب جملا ويدلل منها وعليها على ما يريد إلى برنامج المذيعة نفسها، التى تصور بكاميرا المحمول خاصتها حماما اكتشفته لممارسة الشذوذ، وأبلغت الآداب فردوا لها الجميل، وأعطوها سبقًا أن تذيع عملية الضبط والقبض على المتهمين، متلبسين بجرمهم. إلى آخر القضايا التى شغلت الرأى العام، ألا وهى عمليات التسريبات المزعومة، التى ظن الإخوان أنها المنقذ لهم من جرائمهم فملؤوا الدنيا ضجيجا. والسؤال الذى لم يسأله أى من هؤلاء المتلصصين، ما حقوق هؤلاء البشر الذين تنتهك حياتهم الخاصة، وتتحول إلى برامج وحلقات نقاش وبزنس دون أى مراعاة لأى وازع إنسانى أو أخلاقى؟! الحقيقة أن الفوضى والعبث الغريب اللذين نعيش فيهما جعلا كل الأشياء تتساوى، الكذب والصدق، الحقيقة والسراب، الداعر والمصلح، والضحية هو المواطن البسيط الذى غامت الحقيقة أمام عينيه، وأصبح على حافة الكفر بكل المبادئ التى تعلم وشب عليها. وفيلم المحادثة الذى هو عنوان المقال فيلم قديم منذ السبعينيات بطولة النجم العالمى جين هاكمان، الذى كان يعمل فى وكالة الاستخبارات الأمريكية، ثم استقال وفتح وكالة خاصة به، يأتيه رجل أعمال ثرى، ويكلفه بمراقبة زوجته الشابة، لأنه يشك فى خيانتها له مع أحد الأشخاص، وعندما يبدأ المخبر الخاص عمله يراقب الزوجة فى كل أوقات حياتها. يصورها فى الصحو والمنام فى المنزل والعمل والكوافير، يتسلل تقريبًا، ليصبح الخاص عندها عامًا عنده، والصور تتوالى وتزيد لتصبح ملفًّا سوف يعطيه لزوجها ليقبض ثمن عمله، لكنه يفاجأ، من خلال تلك المعايشة الدقيقة أنها إنسانة رائعة، وأن زوجها الثرى ما هو إلا وحش فى صورة إنسان، فيقرر أن لا يعطيه تلك الصور، لتنقلب العلاقة بينهما إلى عداء.. الثرى لا يستسلم، فيأتى بمخبر آخر أكثر خبرة وحنكة، لا ليتجسس على زوجته فقط، لكن على المخبر الأول الذى تنقلب حياته إلى شك فى كل من حوله بواب العمارة، عامل البريد، حتى أقرب الناس إليه، وفى مشهد النهاية، الذى هو أروع مشاهد الفيلم يشك أن هناك أجهزة تنصت وكاميرات خفية فى شقته الأنيقة حصاد عمله طوال حياته.. ولأنه صاحب خبرة عريضة، فهو يبدأ فى البحث فى كل ركن فى اللوحات والڤازات والنجف، ثم يشك فى الباركيه فيخلعه، وهكذا حتى تتحول الشقة إلى أنقاض، ولم يعثر على شىء يؤكده من وجود هذا الشىء، وأخيرًا يجلس فوق الأنقاض يعزف على آلته الموسيقية كما يقولون طباخ السم بيدوقه ، فهل سوف نتذوق سم التجسس على بعضنا البعض، ونجلس فوق أنقاض وطن قارب أن يكفر بنا ونكفر به؟