حكى لى أكثر من صديق هذه الواقعة التى حدثت قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كان المخلوع يحرص أن يفتتح المعرض الدولى للكتاب، ويُدعى عدد من المفكرين يتم انتقاؤهم بعناية من بين المثقفين الذين تضمن الدولة أنهم لن يحرجوا المخلوع بكلمة أو سؤال خارج المنهج المتفق عليه.. فى هذا الاجتماع قال أحد الكتاب «نريد يا ريس أن يصبح معرض الكتاب مثل سوق عكاظ»، فقال مبارك والدهشة تعلو وجهه «هو مين سوق عكاظ ده».. وضجت القاعة بالضحك، بينما الوحيد الذى لم يضحك هو المخلوع، لأنه لم يدرك أنه قال نكتة، إلا أن كل المجتمعين اعتبروها نكتة ولم يخبروا أحدا.. تذكرت تلك الواقعة وأنا أقرأ تحقيقا نشرته جريدة «الشروق» للزميل سامح سامى عنوانه «مثقفون فى حظيرة المثقف الخطير معمر القذافى»، ومن هؤلاء تقرأ أسماء بقامة وقيمة جابر عصفور، ومحمد سلماوى، وفؤاد قنديل، ونبيل راغب، والراحل سمير سرحان، كل هؤلاء وغيرهم كانوا يكتبون ملاحم عن إبداع القذافى فى رواية أصدرها باسم «القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء».. هل تتذكرون المقلب الذى فضح فيه أحمد رجب عددا من كبار النقاد عندما كتب مسرحية باسم «الهواء الأسود»، وادعى أنها من أدب اللا معقول ونسبها ل«بيراندللو»، وطلب رأى عبد القادر القط، ورجاء النقاش، ولويس عوض، وحصل منهم على شهادة بألمعية المسرحية، وبنائها الجمالى، وحسها الإبداعى، الذى لا يوجد لا قبله ولا بعده.. شىء من هذا أيضا من الممكن أن تجده فى النقاد الذين أشادوا بإبداع العقيد، الفارق أن الرشوة فى «الهواء الأسود» كانت أدبية، فلا شىء سوف يحفز هؤلاء الكتاب للمديح فى تلك المسرحية، ولكنهم خافوا أن يتهموا بعدم القدرة على اكتشاف مواطن الجمال فى هذا النوع الأدبى الجديد.. مع القذافى هناك ثمن، فلم يكن مثلا عصفور هو الوحيد الذى سوف يقبل بالجائزة التى تحمل اسم القذافى، ومقدارها 150 ألف دولار.. الطائرة التى أقلت عصفور متجهة من القاهرة إلى طرابلس فى رحلة استلام الجائزة كانت تضم عشرة أدباء، كل منهم يريد أن يقول للقذافى «أرجوك افتكرنى.. ابقى افتكرنى.. حاول حاول تفتكرنى». كان معمر يريد أن يؤكد أنه ليس مجرد رجل عسكرى، استولى على الحكم قبل أكثر من 40 عاما، ولكنه أديب موهوب، وعلاقته بالأدب ربما لا تتجاوز أنه قرأ بعض الأعمال الأدبية، ولهذا لو ذكرت أمامه سوق عكاظ لن يسأل «مين سوق عكاظ ده»، إلا أنه لا يمتلك حرفة الأديب، وهو فى هذا الشأن مثل صدام حسين الذى أصدر أيضا مجموعة قصصية، ترددت أسماء عديدة من الكتاب الذين ساعدوه فى صياغتها، وفى مثل هذه الأحوال لا يوجد يقين فلا صدام سوف يشى ولا الكاتب سوف يعلن ذلك لا قبل ولا بعد رحيل صدام، أغلب الظن أيضا أن صدام قرأ بعض الأعمال الأدبية، ولا يمكن أن يقول مثل المخلوع «مين سوق عكاظ ده».. لا أتصور أن المخلوع كانت لديه رغبة فى الثقافة، المرة الوحيدة التى نسبت إليه كلمات أدبية، وذلك قبل عامين هى مقدمة لكتاب بالفرنسية عن «أم كلثوم»، ووقع المخلوع باسمه تلك المقدمة!! الأدباء الذين ذهبوا إلى المخلوع قبل نزعه عن الحكم بشهرين، وكتبوا المدائح المباركية بعدها فى ذكاء مبارك، وخفة دم مبارك، والحس الأدبى، الذى يتمتع به يقولون الآن شاور على من يرفض الذهاب إلى الرئيس أقول لهم لماذا لم يتحدث واحد منكم فى حضرة المخلوع عن الفساد والتوريث الذى تصفوه اليوم بالفاسد والمغيب؟ لماذا لم نسمع وقتها لكم صوتا؟ ولماذا الآن تعتبرون أنفسكم القوة الناعمة التى مهدت للثورة وكنتم أنتم القوة المنافقة التى استند إليها المخلوع لبقائه حتى أطاحت به الثورة؟! المثقف الذى باع مبادئه هو العملة الغالبة مع الأسف فى الحياة الفكرية والثقافية، كانوا يبيعونها مرة لمبارك ويحصلون على مناصب، ومرة للقذافى وصدام ويحصلون على الفلوس.. مبارك لم يكتب شيئا أعفاهم من نفاق الأديب اللوذعى حسنى مبارك، لأنه ربما حتى الآن يتساءل حتى وهو فى القفص «هو مين سوق عكاظ ده»؟!