تعكس خريطة الناخبين فى المرحلة الأخيرة من الاقتراع الرئاسى ارتباكا لافتا يستشرى بين جموع الشعب المصرى الذى يصدمه عنيفا أن الرئيس القادم لن يعبر عن أهداف ثورة 25 يناير، لأنه لم يخرج من صفوف الثوار أو يتبنى فكرهم ورؤيتهم نحو مستقبل جديد بعد أن هتفت الملايين طويلا «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهكذا بعد معاناة امتدت طوال عام ونصف العام بعد قيام الثورة يستفيق المصريون على جحيم اختيار لم يكن أحد يتمناه. الوضع الحالى بالغ السوء لأن الاختيار -كائنا ما كان- لن يعبر عن غالبية المصريين أو يحقق طموحاتهم، فالنتيجة الحتمية سوف تفرض واحدا من اثنين، أحمد شفيق ممثلا للنظام السابق بكل عيوبه وتجاوزاته الهائلة، أو محمد مرسى ممثلا للإخوان المسلمين، أو بمعنى أدق مكتب إرشاد الجماعة، وكلاهما ترفضه الغالبية من المصريين التى لا تقبل إعادة إنتاج النظام السابق أو التمهيد لدولة دينية تنسف نضال وتراكم قرنين من الزمان لبناء دول مدنية ترقى بمصر إلى مصاف الدول المتقدمة شكلا وموضوعا.. وبذا فى هذه اللحظة الفارقة يجد غالبية المصريين أنفسهم أمام خيار عبثى يُستعاد فيه نظام من المفترض أنه أفل، ويجب أن ينصرف نهائيا بعد ما سببه من فساد ونهب وتنكيل بالوطن والمواطن، ونظام آخر لا التاريخ ولا الواقع يقبلان باستنهاضه بعد أن أغلقت فى الماضى صفحته فى كتاب الأمم، على خسران وآلام دامية وإخفاقات كارثية. بسبب هذا الوضع الملتبس والمضطرب يمكن رصد آلية تصويت الناخب المصرى فى جولة الانتخابات الرئاسية الثانية فى الأشكال الآتية. التصويت السلبى الإحجام عن الذهاب إلى لجنة الانتخاب لا يمكن أن يتساوى فيه كل الذين لا يذهبون للإدلاء بأصواتهم، لأنهم ثلاث فئات: - الفئة الأولى: فئة سلبية فى مواقفها تجاه القضايا العامة وتتصف بالبلادة والعزوف عن أداء واجبها التصويتى بلا اهتمام بالوضع السياسى مهما كان حرِجا ويحتاج إلى إبداء الرأى من كل مواطن لحسم قضايا وطنية مصيرية أو ذات تأثير فى مستقبل الوطن، وهذه الفئة بالطبع لا تهتم فى أوضاع الاستقرار بأداء هذا الواجب، وكلما ازدادت الدول تقدما وتوغلا فى الممارسة الديمقراطية تقل هذه النسبة، لا سيما عندما تنشأ إشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية تهدد تماسك نسيج الدولة وسلامة المجتمع. - الفئة الثانية: فئة تقاطع عن قصد فى ظروف بعينها، حيث يرى أصحاب هذه الفئة أن الاقتراع الذى يجرى لا يحقق مطالب وضمانات تؤمّن احتياجات الجماعة الوطنية وتوفر سلامة الممارسة السياسية، وهذا ما أعلنت عنه نسبة لا بأس بها من الناخبين الذين يرون أن أيا من أحمد شفيق ومحمد مرسى لن يحقق تجربة حكم آمنة تحمى الديمقراطية وحقوق الفقراء وتتبنى أهداف ثورة 25 يناير.. - الفئة الثالثة: هذه الفئة مرتبكة بين طرفين، الاختيار بينهما أحلاهما مر، وتعانى هذه الفئة أيضا من التأرجح بين إيجابيات وسلبيات كل طرف، وحيرة متنامية مع اكتشاف أن السلبيات تتزايد لدى كل منهما (مرسى وشفيق)، ومع الإمعان فى الموقف تظل هذه الحيرة قائمة وتتضاعف مع مرور الوقت حتى يأتى يوم الانتخاب، مما يؤدى إلى تقاعس هؤلاء الناخبين المترددين وتخلفهم عن الاقتراع. التصويت الاحتجاجى يمكن وصف هذا النوع من التصويت بأنه مقاطعة إيجابية، حيث يذهب الناخبون إلى لجان الاقتراع ويقومون بإبطال أصواتهم كاحتجاج صريح لا يحتمل التأويل، مثلما يحدث فى التصويت السلبى. وأنصار هذا التصويت يقومون فى الغالب بإبداء آرائهم على البطاقات الانتخابية للتأكيد على هوية الفعل وقصديته، باعتبار أن هذا الموقف هو أحد أساليب الاحتجاج السلمى الرافض للعيوب والأخطاء وخيانة مبادئ الثورة والانحراف العمدى عن مساراتها الصحيحة، مما تسبب فى الإتيان بمرشحين ضد الثورة وأهدافها ومبادئها. التصويت الانقيادى ويعنى أن الناخب يذهب إلى اللجنة الانتخابية للإدلاء بصوته بناء على توجيهات تصل إلى حد التعليمات فى بعض الأحيان، وترتبط هذه النوعية من التصويت بالعصبيات والانتماءات القبلية، وفيه يتم الاتفاق مع الرؤوس الكبيرة مقابل صفقات تحقق هيبة هؤلاء الكبار بين تابعيهم من ناحية ومنافع خاصة يعززون بها مصالحهم ومكاسبهم الشخصية من ناحية أخرى. التصويت الإدارى وفيه يقوم مسؤولو الجهاز الإدارى بالدولة من فئة العُمد ومشايخ البلد والموظفين النافذين، بدفع الناخبين التابعين لهم للاقتراع لصالح مرشح بعينه، ويقوم هؤلاء المسؤولون بهذا الدور بناء على تعليمات من رؤسائهم الذين يتبوأون وظائف عليا وينفذون خطط النظام الحاكم، ويعتبر هذا الدور إحدى الأدوات الهامّة لقياس الولاء للقيادات كما أنه يتيح لجميع المنخرطين فى هذه اللعبة مكاسب نوعية تفضى إلى مكاسب مادية. التصويت مدفوع الثمن يصعب توصيفه فى كثير من الحالات التى تتم فيها الرشاوى الانتخابية بأنه تصويت الرشوة، لأن الطرف الذى يعطى الرشوة، وهو المرشح، يقدمها بالتأكيد كى يحقق ميزة تصويتية يتفوق بها على خصمه بطريقة غير شريفة، وهذا تصرف لا أخلاقى ويجرمه القانون، أما الطرف الذى يتلقى الرشوة، فمن الصعب وصف أغلبيته بالمرتشين، نظرا إلى أنهم أفراد فى وضع اقتصادى بائس تحت خط الفقر، وما يحصلون عليه مقابل تجريف صوتهم الانتخابى يمكن أن يكون فى بعض الأحيان ضرورة حياتية قصوى، إذن فهذه جريمة تقتصر الإدانة فى أغلبها على الطرف الأقوى صاحب الثروة والنفوذ الطامع فى السلطة. التصويت الدينى الإقصائى يلعب الدين فى هذا النوع من التصويت دورا حاكما، حيث يُستعمل الدين فى أبشع صور الاستغلال لتحقيق المكاسب والهيمنة على الآخرين، باستغلال مشاعر التدين النبيلة لدى الأفراد البسطاء الذين يفتقدون وعى الممارسة السياسية ودفعهم نحو اختيار لا يحقق مصالح هؤلاء الأفراد، وفى الحالة المصرية الحالية تمثل تيارات الإسلام السياسى اللاعب التاريخى للخلط التعسفى بين الدين والسياسة، فى محاولة مستميتة لتأسيس الدولة الدينية باستغلال صناديق الانتخاب بالتحايل والتدليس والإكراه، واستخدامها مع الناخب تحت يافظة الحلال والحرام، فكل ما يسعون إليه فى لعبة السلطة والسياسة حلال حتى ولو كان حراما فعليا، وكل ما يرفضونه حرام، حتى ولو كان حلالا فعليا، وهكذا يذهب صوت البسطاء والسذج سياسيا، حتى لو كانوا أساتذة فى الجامعات فى عكس اتجاه الإجماع الوطنى العقلانى، حيث تعمد تيارات الإسلام السياسى إلى تشويه القوى السياسية غير الدينية على اختلاف أطيافها بأحط الأساليب اللا أخلاقية من أجل الاستحواذ على أصوت العوامّ الغلابة، فى محاولة لإقصاء كل من يختلف معهم. التصويت الدينى الوقائى أدى الوضع الذى أنتجته تيارات الإسلام السياسى وكشف على الساحة نواياهم الاستعلائية والإقصائية، إلى تولد قلق عميق لدى المصريين المسيحيين، خوفا من الاضطهاد الدينى والعنصرى من أنصار هذا التيار إذا هم حققوا التمكن من السلطة بعد التصريحات المخفية من عناصر قيادية فى تيارات الإسلام السياسى، وهكذا وجد المصريون المسيحيون، ولضرورات موضوعية وإنسانية بعد استفحال هذا الوضع، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التصويت للمرشح الذى يحافظ على الدولة المدنية التى تصون حقوق المواطنة، على عكس الدولة الدينية التى تعصف بهذه الحقوق، وكثيرون منهم يفعلون هذا ربما ضد قناعاتهم السياسية، ولكن للضرورة أحكام، ورغم خطورة هذا الوضع الذى تسبب فيه تيار الإسلام السياسى وأدى إلى الاستقطاب الدينى فى صندوق الانتخاب، وهذه نقيصة سياسية ووطنية عظمى، إلا أن عودة المناخ الطبيعى إلى العمل السياسى سوف تذهب بهذا النوع من الاستقطاب فى التصويت الانتخابى، أدراج الرياح. التصويت العقابى هذا التصويت يتخذه الناخبون ضد مرشح أثبت فشل سياساته أو سياسات حزبه أو القوة السياسية التى ينتمى إليها باتباع أسلوب منح الأصوات للمنافس، وقد ظهرت نتائج التصويت العقابى فى المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية، حيث انخفضت كثيرا نسبة التصويت لمحمد مرسى مرشح جماعة الإخوان المسلمين، كعقاب لحزب هذه الجماعة ومرشحها، بسبب إخفاق الإخوان المسلمين فى تحقيق نتائج ملموسة بعد حصول مرشحيها على الأغلبية فى الانتخابات النيابية (مجلسى الشعب والشورى)، وفى المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية هناك ناخبون سوف يصوتون لشفيق عقابا لمرسى وجماعة الإخوان المسلمين، وآخرون سيقترعون لمرسى عقابا لشفيق باعتباره من بقايا النظام السابق. التصويت المستقر أصحاب هذا النوع من التصويت قاموا بحسم أمرهم بلا أى تردد على الاختيار الذى قرروه، وهم غير قابلين للتأثير عليهم من أى اتجاه يخالف قرارهم فى الاقتراع ولا يؤثر فيهم ضجيج الإعلام ولا كوادر التبشير السياسى المدربة، لأنهم فى ما حسموه يتبعون مصلحة غالبة أو عقيدة ثابتة أو تشبثا بواقع لا يراد تغييره أو تمسك بتغيير يراد تحقيقه.. إلخ.. وعلى سبيل المثال لا الحصر فهناك ناخبون قرروا بحسم كامل منذ بداية هذه الجولة التصويت لصالح شفيق خوفا من انهيار الدولة المدنية، وتحاشيا لبدء عصر من الظلام فى ظل الدولة الدينية التى يسعى إليها الإسلام السياسى، وهناك من هم ضد الدولة الدينية، ولكنهم سيصوتون بلا أى تردد لمحمد مرسى ظنا منهم أنهم بهذا سيتخلصون من الحكم العسكرى.