أحنّ إلى الإسكندرية الراحلة كما أحنّ إلى أمى رحمها الله.. وأقول إن الإسكندرية رحلت لأن المدينة التى تعرفونها الآن ليست الإسكندرية التى عرفتها.. لقد ولدت فى الإسكندرية وتربيت فيها، وكذلك كان أبى رحمه الله، ولعلنى ورثت حب الإسكندرية من أبى، فقد كانت الإسكندرية بالنسبة إليه هى مصر.. وقد اقتنى أبى وباع عقارات للأسرة فى الإسكندرية بالقليل، ولو بقيت لساوت الملايين. ذكرنى بهذا كتاب الدكتور محمد أبو الغار فى الطبعة الثانية «يهود مصر.. من الازدهار إلى الشتات».. فقد استطاع أبو الغار أن يعيد الحياة فى مصر إلى حلاوتها، وهو يصور حياة اليهود فى مصر كلها.. وفى الإسكندرية بالذات.. فذكرنى وأنا بعد صبى صغير.. عندما كان أبى يصحبنى أنا وحدى، مكافأة على نجاحى الدراسى.. كان يصحبنى إلى محطة الرمل حيث نشرب عصير الليمون ونأكل البليلة.. وندخل السينما ثم نعود بالحنطور إلى منزلنا. وأشب عن الطوق وأدخل مدارس الإسكندرية النظيفة الرائعة وأساتذتها الأجلاء فعلا.. وأكون طالبا بارزا وزعيما صغيرا.. وفى شارعنا ومدارسنا فى ذلك الوقت يهود.. ولا نعرف نحن الأطفال الفرق بين اليهودى والمسلم والمسيحى.. ندرس معا.. ونأكل معا.. ونتخانق معا.. وهؤلاء اليهود هم الذين كتب عنهم كتابه المثير الممتع. وفى طبعته الثانية إضافات.. وأهم من هذا أنه منظم ومبوب ومفهرس أفضل من الطبعة الأولى التى كانت ملخبطة.. وقد طلبت من أبو الغار يومها أن يعيد طبع الكتاب بشكل منهجى أكثر.. والحمد لله أنه استجاب وصدرت الطبعة الثانية فى غاية الجمال والكمال. وقد أنقذنى كتاب أبو الغار عن البحث عن جديد أكتبه.. وماذا أكتب والبلد تمر بالبرزخ؟ برزخ الحياة أو الموت.. وبين القوى التى تشدها إلى الخلف لتعود بها إلى القرون الوسطى، والقوى التى تحاول جذبها إلى المستقبل. ولست فى حاجة إلى التفصيل. فمن أبرز مكتسبات الثورة أن الشعب المصرى تحول بالفعل إلى شعب سياسى.. شعب يفكر، لا ينقاد لشعارات زائفة ولا وعود خيالية. أنقذنى كتاب أبو الغار، فماذا نكتب الآن.. ومصر ستتغير خلال بضعة أيام ولا أحد يعرف بالضبط.. كيف؟.. ومتى؟! ونعود إلى الكتاب الذى يقع فى 233 صفحة.. ومَلزمة من الصور النادرة.. لقد قرأ أبو الغار ودرس 17 كتابا عن اليهود بالعربية.. وترجم وقرأ ودرس 14 كتابا باللغة الإنجليزية والفرنسية وقام بالسفر إلى كثير من البلدان الأوروبية لمقابلة الأحياء من اليهود المصريين الذين هاجروا فى سنوات مختلفة، أبرزها السنوات التالية لعدوان 1956، بعد العدوان الثلاثى على مصر، والذى تكون من إسرائيل وإنجلترا وفرنسا. لقد أصبح من المستحيل أن يبقى اليهود فى مصر.. والمدهش أنهم هاجروا إلى بلاد كثيرة من دول العالم، ليس بينها إسرائيل.. وقد عشت تلك الفترة بالكامل لأننى كنت أعمل فى صحيفتى «الصراحة» و«التسعيرة» اللتين كان يصدرهما ألبير مزراحى. ولى ذكريات مثيرة عن تلك الفترة، خصوصا مع صول مزراحى زوجة ألبير التى كان منوطا بها حساب الصحيفتين، وكانت تحاسبنى على الصفحة الكاملة بسعر عشرة جنيهات عن كتابة الصفحة، ثم تقوم بخصم الرسومات والصور والإعلانات من المساحة، فيبقى لى جنيهات ثلاثة كنت فى حاجة إليها، لأننى كنت ما زلت طالبا بالجامعة. ويروى كتاب أبو الغار حكاية اليهود فى مصر حافلة.. ويشرح أصولهم ومذاهبهم ونشاطهم الاقتصادى والسياسى والاجتماعى.. ويوضح كيف استمد اليهود فكرهم السياسى تقريبا من الشيوعيين.. وهم أول من أدخل الفكر الماركسى إلى مصر ثم كانوا أول من أنشؤوا الجماعات والأحزاب الشيوعية فيها. ويشتد فى الفصل المعنون «يهود الإسكندرية» فيروى على لسان أحد اليهود المدعو جاك حسون الذى يقول: إنه كانت هناك جالية يهودية فى الإسكندرية من نشأة المدينة، وكان عدد اليهود فى الإسكندرية فى القرن ال 19 نحو أربعة آلاف يهودى ووصل هذا العدد إلى 18 ألفا فى أوائل القرن العشرين وارتفع إلى 40 ألفا عام 1948، وكانت الهجرة من اليونان وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين والمغرب وإيطاليا وفرنسا.. وفى نهاية القرن ال 19، هاجر إلى الإسكندرية عدة آلاف من اليهود الروس، مثل عائلة هانو، وبعد ذلك هاجرت مجموعة أخرى عند قيام الثورة البلشفية.. وفى أوائل الثلاثينيات هاجرت مجموعة من يهود سالونسكى والنمسا والمجر وبولندا إلى مصر، هربا من جنود النازى فى ألمانيا. ويقول حسون إن نصف عدد يهود الإسكندرية كانوا من اليهود المصريين، والنصف الآخر ينقسم إلى ثلاثة أقسام، أولهم من سكان البحر المتوسط الذين هاجروا من إسبانيا والثلث الثانى من يهود إيطاليا وشرق أوروبا، والثلث الثالث من يهود المغرب والشرق الأوسط الذين يتكلمون العربية. وهكذا نرى أن يهود مصر كانوا أخلاطا من جنسيات وأوطان مختلفة.. ويقول المؤلف: كان المستوى الاجتماعى لليهود من جميع الأجناس ممثلا فى مجتمع الطبقات، فمنهم الفقراء والأغنياء، أما طبقة كبار الأغنياء فكان منهم الأجانب والمصريون.. وهكذا كان معظم اليهود من صغار البرجوازيين. وقدأ أنشأ أغنياء اليهود فى الإسكندرية مؤسسات اجتماعية لمساعدة الفقراء مثل المستشفى الإسرائيلى والمدارس اليهودية، ودار اليتامى، وهكذا نرى أن اليهود فى مصر كانوا جزءًا من نسيج المجتمع المصرى ممثلين لجميع طبقاته.. وفيهم الفقير والغنى والمثقف والمتعلم والجاهل.. لقد كانوا مواطنين بالمعنى الحقيقى، ثم حدث ما حدث. الكتاب تحفة يستمتع به القارئ.. خصوصا ممن كانوا مثلى عاشوا مع اليهود واشتغلوا معهم.. نسيج واحد، ولكن الزمن غير كل شىء. ملاحظة بسيطة.. تكرار المعلومات.. وهذا يأتى من رواية أكثر من شخص لواقعة بعينها.. وهذا مفهوم بالضرورة.. وفى كلمات الكتاب تحفة تستحق الاقتناء والقراءة.