ركبت المترو فى صباح أحد الأيام، متوجها من المعادى إلى منطقة وسط البلد، حتى أتجنب مشقة البحث بلا جدوى عن مكان خالٍ أركن فيه سيارتى، كنت مدعوًّا للمشاركة فى ندوة للأطفال، صعدت إلى عربة المترو، وقفت إلى جوار أسرة صغيرة جالسة تتكوَّن من أب شاب يحمل طفلته على ساقَيْه، وأُم محجبة رقيقة يجلس فى مواجهتها طفلهما الذى لا يزيد عمره على العاشرة. فى لمحة لطيفة أشار إلىَّ الأب بالجلوس آمرا طفله بأن ينهض لكى يجلس عمو، الذى هو أنا، تمنّع الطفل بدلال رافضا، فشكرت الأب بابتسامة ورجوته أن لا يضايقه، فلم يكن المترو مزدحما، ولم تكن بى حاجة ملحة تدفعنى إلى الجلوس. أصرّ الأب ونهر طفله الذى ازداد تمنّعا وغمغم معترضا بصوت باكٍ. أشفقت عليه وقررت الابتعاد قليلا، لكى أقطع على الأب فرصة مواصلة إصراره على قيام الصغير من مقعده. فجأة قالت الأم لطفلها بصوت يحمل كثيرا من الإغراء: لو قمت وخلّيت عمو يقعد مكانك هاجيب لك فيلم «شركة المرعبين»! ما إن أكملت الأم جملتها حتى قفز الصغير واندسّ فى حضنها مستسلما، جلست مبتسما، دار بخاطرى أن أخبرهم بأننى الشخص الذى أسعده الحظ وقام بترجمة وتمصير الحوار والقفشات الكوميدية التى أحبها الصغار والكبار فى ذلك الفيلم الكارتونى البديع الذى أنتجته «والت ديزنى» العالمية، واشترك الفنان محمد هنيدى فى بطولة نسخته العربية، لكننى عدّلت عن فكرتى، ربما منعنى الخجل، وربما خشيت أن لا يُصدّقنى الطفل ويقول: يا سلام؟ إنت بس بتقول كده علشان ما أزعلش بعد ما قمت وسبت لك مكانى، أو ربما تشعر الأم بأننى أكذب مستظرفا. وأقدّم إلى ابنها بهذا السلوك نموذجا سيئا للكبار، الأسوأ بالطبع أن يظنّ الأب أننى أختلق هذا الأمر لكى أتجاذَب الحديث مع زوجته وأثير إعجابها. فى الحقيقة لو فكّروا هكذا فلن ألومهم لضآلة احتمال حدوث مصادفة كتلك، فى النهاية آثرت الصمت، دارت فى عقلى فكرة ذلك الفيلم الرائع الذى يحكى عن عالم موازٍ لعالمنا توجد به مدينة للمرعبين، تقوم بتوليد الطاقة الكهربائية التى تستخدمها فى جميع أمور حياتها من صراخ الأطفال بوساطة شركة يعمل بها فريق من المخوفاتيّة المحترفين، يدلفون إلى عالمنا بعد عبورهم للخط الفاصل بينه وبين عالمهم، والذى يتمثّل فى باب خزانة الملابس الموجودة فى غرف نوم الأطفال. تلك الخزانة المظلمة التى تثير طقطقات أخشابها خوف الصغار فى الليل، فيشعرون بتسلل كائنات مرعبة وهمية، جعلت فيلمنا من وجودها حقيقة لا خيال. قلت لنفسى لمَ لا أستخدم هذه الفكرة العبقرية لأشرح للأطفال موقفى مما يدور فى بلادنا العربية من أحداث كارثية؟ كان من المفترض أن تتناول الندوة خطأ الأفكار التى يثيرها مخوفاتية أيامنا من «الدواعش» كارهى الديمقراطية، والتعايش السلمى، الحالمين بدولتهم الدينية العنصرية. للحق لم أكن أريد أن أتحدَّث عنهم فقط، كنت أريد أيضا أن أتناول كل المخوفاتية الذين يكمنون فى الظلام ليثيروا فزع المجتمع، ويستنزفوا طاقته لصالح أهدافهم. رئيس شركة المرعبين برّر اختطافه لطفلة بريئة بوجود حاجة ملحة لتطوير جهاز يشفط الصراخ من الأفواه لكى يزيد كمية الطاقة التى تحتاجها مدينته، لكن فى تطور درامى خطير يكتشف المخوفاتى الطيب، شلبى سيلوفان، أن ضحك الأطفال ينتج كمية مهولة من الطاقة أكبر من تلك التى تنشأ من صراخهم. هذا التصور الفنى أنار فى نهاية الفيلم بصيرة الشركة إلى إمكانية، بل وضرورة، تحويل نشاطها من شركة للمرعبين إلى شركة للمضحكين. هذه الرسالة الرائعة كانت تحمل بذرة أمل تمنّيت أن أنقلها إلى الأطفال لكى يحاولوا فى مستقبل أيامهم أن يغيِّروا واقعنا الذى حوَّله الكبار بأنانيتهم المفرطة إلى صراع ينتصر فيه مَن يملك قدرة أكبر على تصدير الخوف إلى الآخرين. أفكار كثيرة دارت برأسى وأنا أذهب إلى لقاء كنت أعلم جيدا أن الكبار الذين يديرونه سيرعبون الأطفال من نماذج لا أشكّ مطلقا فى تطرفها وكراهيتها للحياة، لكننى كنت أخشى أيضا من توابع الحوار الذى سيدور غالبا، رغم حُسن نيات المتحدثين، حول قلة أدب الشباب الثائر، وصولا إلى العملاء أصحاب الرأى المعارض للسلطة الذين يمهدون الطريق لتمزيق الوطن على أيدى المتطرفين. المثير أن المخوفاتى الطيب، شلبى سيلوفان، كان مختلفا هو الآخر فى رؤيته للأمور، وتم اعتباره خائنا لوطنه، مدينة المرعبين، عندما أخفى الطفلة البريئة التى كانت شركته تجرى عليها تجارب تطوير جهاز شفط الصراخ. المفارقة أن سيلوفان أصبح فى النهاية بطلاً، بعد أن كان خائنا، لأنه أنقذ مدينته من أزمتها عندما أثبت أن ضحك الأطفال ينتج طاقة هائلة تعادل أضعاف ما كانوا يحصلون عليه من صراخهم. ذهبت إلى الندوة، سار السيناريو كما توقّعت، بدأ الأمر بتصدير الرعب إلى نفوس الصغار، وإلقاء تهم الخيانة فى جميع الاتجاهات، حاولت أن أكون شلبى سيلوفان، تحدّثت عن ضرورة الديمقراطية لحماية الاختلاف، لأنه يقود إلى حلول مبتكرة يخنقها الاستماع إلى الصوت الواحد، ردّ الجميع بكلمات مخيفة عن ضرورة قتل الديمقراطية لكى يحيا الوطن! لم يدرك الجميع أن غياب الديمقراطية يجعلنا نشبه مَن نحاربهم من المتطرفين. المخوفاتية من حولنا كثيرون بالفعل، لكن أخطرهم مَن يحاول إقناعنا بأن عصير الرعب الذى يقدّمه إلينا هو المشروب السحرى الذى سينقذنا من رعب الآخرين! يبدو أننا صرنا نعيش فى مدينة للمرعبين تمتلئ بالمخوفاتية وتستمد طاقتها من صراخ المذعورين.