يا لها من «مهنة»! فبعد سنوات طويلة قضيتها فى حقل «التربية والتعليم»، يمكننى أن أتساءل بصدق وأمانة: هل نحن -المدرسين والمدرسات- نربى التلاميذ الصغار، فى مدارسنا، على قيم التقدم والرقى والحضارة؟ وهل نعلّم الطلاب، فى مختلف مراحل التعليم، الحقائق العلمية المجردة؟ وهل ندربهم على استخدام المنهج العلمى فى البحث والتفكير؟ وهل نقدم لهم (بسلوكنا وتصرفاتنا) القيم الأخلاقية، أو المثل الأعلى؟ أعتقد أننا جميعًا نعلم إجابات هذه الأسئلة، ومن ثم أقول إننى، وبحكم خبرتى الطويلة، أمتلك بعض الأفكار لإصلاح منظومة التعليم المنهارة، لكنى أعلم، أيضا، أن المشكلة ليست فى ندرة الأفكار الإصلاحية، ولا فى قلة خبراء التعليم، ولا فى صعوبة نقل مناهج التعليم الحديثة، وطرق التدريس من الدول المتقدمة، وإنما المشكلة تكمن فى عدم وجود إرادة سياسية، ولا رؤية متكاملة للقيام بثورة حقيقية فى قطاع التعليم فى مصر. والآن، دعونا من هذه القضية الكبيرة، وليتسع صدركم لحكايتى عن واقعة صغيرة حدثت منذ أيام قليلة فى مدرستى، ففى بداية العام الدراسى انضم إلينا عدد من المدرسين الجدد، ومن ضمنهم مدرس للغة الفرنسية، شاب حديث التخرج، وفجأة بدأت المدرسة كلها تتحدث عن هذا المدرس الجديد! لا أحد يعترض على مستواه العلمى، ولا أحد يذكر شيئًا عن أسلوبه فى تدريس اللغة الفرنسية، ولا يوجد من يتكلم عن طريقته فى التعامل مع الطلاب أو الزملاء، وإنما مسار الحديث كله أخذ ينصبّ على «عقيدته الدينية»! فقد لاحظ بعض الطلاب أنه لم ينضم قط إلى صفوف المصلين فى مسجد المدرسة، وعندما سُئل عن ذلك أجاب بأنه غير مقتنع بالدين الإسلامى، ولا بأى دين آخر، فهو لا يؤمن بوجود الله. فانقلبت المدرسة رأسًا على عقب! فكيف تتصرف مؤسسة تعليمية تجاه مبدأ «حرية العقيدة»؟ وكيف يتعامل هؤلاء المشتغلون بتوصيل «العلم» للآخرين، أو بتدريس التعليم المدنى، مع زميل لهم يفكر بطريقة مختلفة؟ ولماذا لا يُجرى المتخصصون حوارًا على أساس علمى حول هذه القضية المهمة؟ أظن أنكم، أيضا، تعلمون الإجابة عن هذه الأسئلة، فقد تصاعدت موجات الهجوم العشوائى على هذا الشاب ال... (سأترك وضع الصفة المناسبة له لكى يضعها القارئ، لأنى على يقين أنها ستختلف من قارئ إلى آخر من النقيض إلى النقيض!). المهم أن الأمر كاد يصل إلى الاعتداء البدنى عليه، لكن الموضوع انتهى بطرده شر طردة من المدرسة، وأرسل الناظر مذكرة عما حدث إلى الإدارة التعليمية، فى حين حرر بعضهم بلاغا رسميا عنه فى قسم الشرطة! مؤتمرات طبية.. وغذائية الدواء سلعة كغيره من السلع، ويبلغ حجم مبيعاتها نحو خمسمئة مليار دولار فى العام، وتحتل مبيعاتها المرتبة الثانية بعد السلاح، وإذا كانت السلع تتنافس من أجل الوصول إلى عقل المستهلك، فالأدوية تتنافس للوصول إلى الأطباء، لأنهم وسيلة ترويجها. وقد ظلت الأدوية بعيدة عن وسائل الدعاية المباشرة، حتى بدأت تظهر مؤخرًا إعلانات عن أدوية بعينها، وبدأنا نرى إعلانات على غرار المصاصة التى تفشل فى اختراق علبة البيبسى، أو المسمار الصلب الذى يخترق الأسمنت المسلح بسهولة، وعندما كانت ابنتى الصغيرة تسألنى فى براءة عن معنى هذا الإعلان كنت أموت فى جلدى من الكسوف، وأتظاهر بالجهل أو بالغباء، وأقول لها: «ما اعرفش»، فتسألنى بتهكم: «هو مُش حضرتك دكتور؟»، فأهرب من النقاش إلى الحمّام! واعتراضى على مثل هذه الإعلانات لا ينصبّ فقط على قلة الأدب التى تحفل بها، وإنما على الأثر المدمر على الصحة العامة، فالإعلانات تتحدث عن الأثر الإيجابى للدواء، أما آثاره الجانبية وجرعته وتفاعله مع غيره من الأدوية، وكل آثاره السلبية الأخرى، فلا يظهر لها بالطبع أى أثر فى تلك الإعلانات. وتقوم سياسة الإعلانات عن الأدوية على جيش كامل من مندوبى الدعاية، ويتولى هذا الجيش الجرار المرور على المستشفيات وعيادات الأطباء، ومحاولة إقناعهم بجدوى هذا الدواء دون غيره، فإذا حاول الطبيب بالعلم أو بالمنطق أن يذكر بعض النواحى السلبية للدواء، هنا يُظهر المندوب ذهب المعز. وذهب المعز هذا يختلف، حسب وضعية الطبيب، فطبيب الأرياف الغلبان يكفيه علبة مجانية من الدواء، والطبيب الشاطر له موبايل أو ساعة، أما الطبيب من الأساتذة الكبار فلا بد له من سيارة تليق بالمقام، أو فسحة إلى أوروبا مع المدام. وقد تسلمت دعوة لحضور مؤتمر طبى، تتضمن قضاء يوم وليلة فى فندق خمس نجوم، والدعوة شاملة، يعنى «فول بورد» إفطارًا وغداءً وعشاءً مع تذكرة طيران ذهابًا وعودة. وبعد الإفطار الدسم بدأ المؤتمر بمحاضرات، بينها استراحات فيها موائد وأطباق بيتفور حلو ومالح، وباتون ساليه، وجاتوهات، وعصائر من كل صنف ولون، وشاى وقهوة ونسكافيه وغيره. أما المحاضرات فكلها تلف وتدور وتعيد وتزيد فى فائدة المكمل الغذائى الذى تنتجه الشركة الراعية. وعلى الغداء كان مندوب الشركة (الذى يحمل شهادة الدكتوراه) قد أخذ يحسب عدد الكراتين التى سوف تبيعها الشركة بعد هذا المؤتمر.. الطبى! فتعلمت بعد ذلك أن أحضر مثل هذه المؤتمرات (المهمة)، بعد أن اكتشفت فائدتها العظيمة، وأوصيت أصدقائى فى القطاعات المختلفة أن يخبرونى بهذه المؤتمرات متى سمعوا عنها، لأنه بصراحة لازم الواحد يحسّن مستواه! وكل مؤتمر من هذه المؤتمرات يتحدث عن موضوع طبى له علاقة بدواء جديد تنتجه الشركة الراعية، والحديث يدور حول هذا الدواء باعتباره السحر الذى لا قبله ولا بعده (وكثير من هذه الأدوية قد سحب بعد ذلك من الأسواق بعد ثبوت خطورتها)، ودائمًا ما تنتهى المؤتمرات بعشاء فاخر للحضور، والعشاء بوفيه مفتوح، يعنى تختار من بين أصناف كثيرة جدا ما يعجبك. وعلى الرغم من أن كل الحضور أطباء، وكلنا نحذر مرضانا من أضرار السمنة، وخطورة الكوليسترول، وكثير منا يلتزم بذلك فعلًا فى بيته، أما فى مثل هذا «المولد» فإن كل تلك النصائح والمعلومات تتبخر من أدمغتنا (أرجو ممن يعرف تفسيرًا لهذه الظاهرة أن يقدمه لى!). ولو سألت نفسك: ومن يدفع ثمن ذلك كله؟ لوجدت الجواب على الفور: كله على حساب صاحب المحل، وصاحب المحل هنا هو المريض المسكين! (كاتب هذه الرسالة الدكتور جودة كف) مثلى الأعلى جدى الحبيب رحل عنا منذ عشر سنوات عن عمر 84 سنة. وقد كان، وما زال، قدوة أحتذيها، ومثلاً أعلى سأفتخر به ما حييت. لقد كان جدى إنسانا بمعنى الكلمة، أبا وجدا حنونا، كريما طيب القلب. كان يعمل مدرسًا وموجهًا للغة الإنجليزية، وهو من أسهم فى إعجابى بمجال التدريس، وجعلنى أحب اللغة الإنجليزية منذ الصغر. فكنت عندما أواجه أية صعوبات فى اللغة أتوجه إليه على الفور طلبًا للمساعدة، وكان دائما ما يرحب بتقديم المساعدة، حيث يسكن فى الشقة المجاورة لنا. ما زلت أتذكر ذاك الكشكول الذى كنت أدون فيه كل ما أتعلمه من جدى فى ما يتعلق بقواعد اللغة الإنجليزية، والذى لعب دورًا كبيرًا فى إتقانى للغة، وحصولى على الدرجات النهائية بالمدرسة وحتى الجامعة. كنت أجلس معه كثيرًا ونتحدث معًا عن حياته وآرائه فى مختلف الأمور الحياتية، وتجاربه التى كان ينقلها إلىَّ بتواضع ومحبة. أذكر أننى فى يوم أحضرت معى أوراقا وقلما، وأقمت معه حوارًا طويلا عن حياته منذ دخوله المدرسة وحتى أصبح جدا، وأخذت أدون كل سيرته الذاتية بالتواريخ والتفاصيل الدقيقة. كم كنت أشعر بالدفء والحب فى وجوده. فى أواخر أيامه، ونظرًا إلى كبر سنه، واجه جدى بعض الأزمات الصحية التى كانت تستدعى دخوله إلى المستشفى حتى تستقر حالته، مما سبب لى حزنا شديدًا. لكن الله أتم شفاءه، وعاد إلى المنزل، واستقرت حالته. كنت كل يوم فى الصباح قبل أن أذهب وابنة خالتى إلى المدرسة، نعرج عليه لنحييه وجدتى، وكذلك بعد أن نعود من المدرسة. وفى امتحان نهاية العام بالصف الثالث الإعدادى، استيقظت للذهاب إلى الامتحان، وأردت أن أمرّ على جدى كما جرت العادة، ولكن منعتنى جدتى وأمى من الدخول بحجة عدم التأخير عن الامتحان، وذهبنا مسرعين إلى المدرسة، وظل الشك يساورنى وابنة خالتى من غرابة الموقف. ودومًا كانت أمى أو خالتى تُحضراننا من المدرسة، ولكن فى ذلك اليوم أوصلتنا صديقة للعائلة إلى المنزل، لأعود وأكتشف أن جدى قد توفاه الله فى أثناء نومه. ما زلت أتذكر ذلك اليوم كما لو أنه البارحة، كم كانت الصدمة شديدة بالنسبة إلىّ. لقد كانت علاقتى بجدى وثيقة، ولم أستوعب تلك الصدمة سريعًا، لكن بمساعدة جميع أفراد أسرتى استطعت أن أجمع شتات نفسى لكى أخرج من الأزمة، وأمارس أنشطتى اليومية بصورة شبه طبيعية. عاهدت نفسى على أن أتقدم فى كلية الألسن لأتخرج وأصبح معلمة مثل جدى الحبيب. وكم أنا فخورة لكونى معلمة تسهم فى تشكيل جزء من حياة الآخرين، مثلما فعل جدى معى، ومع كل من كان يعرفه. جدى الحبيب، كم أتمنى فى كثير من الأحيان أن تكون على مقربة منى، لترى ما أصبحت عليه الآن وتفتخر بى وتشجعنى بكلماتك الرقيقة المحفزة على التقدم والتفاؤل. أحاول أن أتخيل ما كنت ستقوله لى فى مواقف متعددة من حياتى. وأدعو الله أن يتغمدك بواسع رحمته ويجعلك فى أعلى درجات الجنة، فأنت رجل ونعم الرجال، رحمك الله.. (هذه الرسالة بقلم سلمى نشأت جعفر)