لم تكن محاولات الملك الشاب فاروق، والذى أطلق عليه البعض «الملك الصالح»، فى عام 1943 تخلو من النزق والتسلط والكبرياء والرعونة، وهذا بشهادة أساتذته ورعاته عندما كان يدرس فى إنجلترا، قبل أن يعود بعد وفاة والده الملك فؤاد، ليحكم البلاد، وهو لا يزال فى ميعة الصبا، لا يتقن شؤون الحكم، ولا يعرف كيف تساس الأمور السياسية الكبرى، ولكن الذين التفوا حوله، زيّنوا للعامة بأنه هو الشخص الذى سيعيد إلى البلاد شبابها وحيويتها ورونقها، وأطلقوا عليه العادل الأول والعامل الأول والمصرى الأول والسودانى الأول والعربى الأول.. إلخ، هذه الألقاب الفضفاضة والمضللة، والتى كان يتنافس على صكها حفنة من الكتّاب المأجورين بطرق مختلفة، وكان الصحفى كريم ثابت المنحدر من أصول لبنانية، هو الذى يقود عمليات تدشين وتزيين وتسويق هذه الألقاب الغزيرة والكاذبة. وعندما قامت الحرب العالمية الثانية فى عام 1939، واعتبر الإنجليز، البلاد المصرية أحد مرتكزاتهم فى هذه الحرب، ونشأ صراع بين مناصرى الإنجليز، ومناصرى أعداء الإنجليز، ونشأت محاولات لمساندة الألمان، وهناك من يؤكد أن الملك فاروق هو الذى سعى إلى إيجاد عملاء ألمان فى القاهرة، وبالتالى كان الملك فاروق مرمى لإيذاء الإنجليز، هذا الإيذاء الذى تكرّس وتكثّف فى حادثة 4 فبراير 1942، بتنصيب وفرض الزعيم مصطفى النحاس رئيسًا للوزراء. بعد هذه الحادثة تعاطفت قطاعات كثيرة من الشعب وطوائفه، رغم العورات الواضحة والفاضحة فى الخيبات المتتالية التى كانت تنتاب سياسة الحكم بشتى الأشكال، ولكن عين الحب عمياء، وعيون المنافقين والمزيفين عن كل عيب كليلة بل ضريرة. وحدث فى الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 15 نوفمبر عام 1943، وكان الملك ذاهبا إلى مدينة الإسماعيلية وبالقرب من القصاصين، أن اصطدمت سيارة حضرة صاحب الجلالة الملك بسيارة نقل -كما جاء فى كل الصياغات الصحفية آنذاك حرفيا- وقد أجريت الإسعافات الأولية اللازمة لجلالته فى أحد مستشفيات الجيش البريطانى، وتبين بعد عمل الأشعة أنه يوجد شرخ بسيط نحو السنتيمتر بالحرقفة اليسرى مع رضوض بسيطة، والحالة العامة كانت جيدة، وكان النبض والحرارة طبيعيين، وقد وافق الأطباء على أن ينتقل جلالته إلى قصر عابدين صباح الغد من يوم وقوع الحادثة. بعد ذلك انبرت الأبواق الإعلامية والأدبية والشعرية، وهذا لا يدفعنا إلى اتهام كل من كتب وانزعج من أجل وقوع هذه الحادثة للملك الشاب بأنه منافق وأفّاق ومضل، بل هناك من كانوا يحبونه بالفعل، ولا يبتغون من خلف ذلك سوى وجه الوطن، إذ كان هناك من يعتبر أن الملك فاروق هو الواجهة الرسمية لمصر، وبناء على ذلك فيجب مناصرتها وتقويمها، لا مهاجمتها. وإزاء ذلك راحت الصحف والمجلات تستعيد الخطب التى كان يلقيها الملك فى المناسبات المختلفة، والتى كان يغازل فيها الشعب بعبارات عاطفية جاذبة، ولا بد من إضفاء طابع التدين والتصوف، إذ نجده فى العيد الهجرى يقول: «شعبى المحبوب.. منذ خاطبتكم المرة الأخيرة، مرت بنا أوقات عصيبة تلاحقت فيها الحوادث سراعا، فكنت أخلو إلى نفسى، واتجه إلى ربى، أسأله أن يحفظ بلادنا العزيزة، وأن يرفع عن كاهل الإنسانية شرور الحرب»، وفى لقائه مع خريجى الجامعات يغازل الشباب بعبارات فضفاضة، وفى الوقت ذاته يبادلهم التحية بالتحية الواجبة، وهذه التمارين الملكية أو الرئاسية يتقنها الحكّام يوما بعد يوم، بغض النظر عن الاحترام الحقيقى الذى يكنّه هؤلاء الحكام لشعوبهم. ولا نريد أن نبتعد عن الحادثة التى أهاجت عواطف النخبة الثقافية والصحفية، إذ كتبت المحامية مفيدة عبد الرحمن: لا أظن أن ملكا من الملوك -بالغا ما بلغ من الديمقراطية والعطف على الشعب والحدب على الفقراء والمعوزين- قد سكن فى قلوب رعيته، وملك مشاعرهم وتفكيرهم بالقدر الذى بلغه فاروق من محبة شعبه وتقديره»، وكتبت السيدة روز اليوسف: «كنت بدار حزب الأحرار الدستوريين وفجأة أحسست باضطراب نفسانى واهتزاز شعورى، علمت بعد أن الفاروق -أبقاه الله ذخرا للوطن- قد أصيب فى حادثة بالقرب من القصاصين.. لم أتمالك حواسى.. ولم أستطع أن آتى أى حركة سوى أننى أمسكت بالتليفون وطلبت رجال القصر كى يطمئن قلبى»، وكتب كذلك إحسان عبد القدوس: «كانت حياة الملك فى خطر.. وحياة الملك هى حياة الشعب.. كان الشعب كله فى خطر.. وحياة الشعب هى حياة الملك.. وتجمع سبعة عشر مليونًا فى بقعة صغيرة من الصحراء يسألون فى نفس واحد: كيف حال الملك؟!!». أما محمد حسنين هيكل فكتب مقالا عنوانه: «اثنان وعشرون يوما مجيدا»، وجاء فيه: «كنت فى المنزل.. وكنت أتأهب للخروج وفجأة دق التليفون وكان المتكلم زميل أجنبى يعمل فى زميلة مسائية أجنبية كذلك.. قال لى: أعلمت الخبر؟، قلت: أى خبر؟، قال: لقد أبلغنا أن الملك قد أصيب فى حادثة بالصحراء.. ولقد أتيح لى بعد ذلك أن أتمالك أعصابى فذهبت إلى عابدين وهناك علمت أن الملك فى سلام وأن الله حفظه لمصر وللشعب،. وعدت إلى إدارة الجريدة وسهرنا طوال الليل ننتظر، وكانت عقولنا وقلوبنا كما كانت عقول وقلوب المصريين فى هذه الليلة متجهة هناك.. إلى القصاصين ولم نستطع أن نتنفس الصعداء، إلا عندما أبلغنا تقرير الأطباء الأول». كل ما فات شأن، وما كتبه صبرى أبو المجد شأن آخر، ونشره فى كتاب كامل اتخذ له عنوان «أيام الفاروق»، واستفاض فى مديح أكثر من مبالغ فيه، ولا أريد أن أستفيض فى اقتباسات من كتاباته، ولكن المدهش أنه بعد قيام الثورة، كان أكثر من زعم أنه قاوم الملك عندما كان ينتمى إلى الحزب الوطنى. وإذا كان للنثر دور، فكان الشعر حاضرا بقوة، وكان على رأس هؤلاء الشاعر محمود حسن إسماعيل، الذى أصدر ديوانًا كاملًا عام 1946 تحت عنوان «الملك»، أنشد فيه شعرا بليغا، وقدمه بكلمة نثرية قال فيها: «مولاى صاحب الجلالة: هذا هتاف الفن لأنوارك الجديدة فى كل آفاق الحياة، سكبته من دمى غناء يفيض للدنيا بحبك، وينبض فى جوانح الزمن بآيات وطنيتك». وبالطبع جاءت قصيدة عصماء فى حادثة القصاصين. وليست بالطبع هذه الشذرات كل ما كتب، بل هى غيض من فيض، وتثبت أن الداء قديم، وليس جديدا، والمبالغة طبع فى النفس التوّاقة لمصاهرة العروش، ومتاخمة أصحاب الملك، طمعًا فى ذهبهم، وليس خوفا من سيوفهم، التى لم تشرع إلا بعد كل هذا التزلف والرياء.