عاش المصرى القديم وحتى وقتٍ قريب أسير فكرة الشكوى من الظلم، من دون أن يبادر فى معظم الأحوال إلى رفع ذلك الظلم عن نفسه وبنى وطنه. ومن يستقرئ الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى التى جمعها د.سيد عويس فى كتاب عام 1965، أو الرسائل المرسلة إلى السيدة نفيسة عام 2008 التى جمعتها ضحى عاصى فى كتاب آخر، سيتضح له أن الشكوى المصرية من الظلم السياسى والاجتماعى متأصلة فى نفوس كثيرين. ولطالما عبَّر المصرى عن ذلك التوجه فى أمثاله الشعبية وأشعاره العامية (أزجاله) ومواويله وسيره وملاحمه الشعبية التى يتبدى فيها الشعور بافتقاد العدالة فى مراثى أدهم الشرقاوى، وياسين وبهية، وحسن ونعيمة، ومن قبلهم أيوب وناعسة، «وبالطبع يلجأ المصرى كعادته إلى الخرافة فى تخليص حقه من ظالمه، وإلى الشكوى لأولياء الله، والإيمان المطلق واليقينى بأن الله لا بدَّ مُخلصه من ظالمه، ومستخلصًا له حقه من بين أيديهم». ينهج المصرى فى ذلك نهج ما يراه جيمس سكوت من سلوك بعض الجماعات الضعيفة أو المستضعفة أو المهمشة والتى تعجز عن مواجهة السلطة أو الآخرين، فتلجأ إلى أساليب مقاومة تتسم بالحيلة والتحايل مثل: النفاق، والتمويه، والتلاعب، وتتبع ونشر الفضائح، والكذب، واختلاق القصص والشائعات المغرضة، وترديد النكات الساخرة من الحاكم، وانتظار القصاص الإلهى، وغيرها من الطرق. يقول إبراهيم عبد القادر المازنى إن «المصرى عاش فى ظل حكم استبدادى غاشم آلافًا من السنين، والعسف يورث النفوس مرارة، ولا يبيت الناس منه إلا على حذر وتقية، وإذا كان المصريون لم يستطيعوا فى هذه الأدهار الطويلة أن يغيِّروا الحال تغيُّرًا يمحو ما استقر فى أعماق نفوسهم، فقد كان ملجؤهم التحرز وإضمار سوء الظن وإطلاق اللسان، وألفوا أن يدعوا حكامهم وولاة أمورهم يفعلون ما يشاؤون، على أن يقولوا هم فيهم ما يشاؤون، ولست أعرف أمة أخرى -وقد أكون مخطئًا- تبسط ألسنتها فى رجالها ورؤسائها وحكامها كما يبسطها المصريون». ومع تقديرنا الكامل للوازع الدينى والطابع الساخر، وأهميتهما ضمن أبرز مكونات الشخصية المصرية، فإن هناك شبهة سلبية نجدها فى هذا السلوك الذى هو أقرب إلى التواكل منه إلى التوكل مع الأخذ بالأسباب. وليس معقولًا ولا مقبولًا أن يكون السكون والاستسلام واليأس والتخاذل، واللجوء إلى الهزل على سبيل التحايل الهروبى من الواقع الأليم، سمة عامة فى مجتمع هو أحوج ما يكون إلى الجد والعمل والتفكير والتخطيط والوعى. لقد تطرق المؤرخ تقى الدين المقريزى إلى أخلاق المصريين، فقال إن «أبدانهم سخيفة سريعة التغير، قليلة الصبر والجلد. وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستمالة والتنقل من شىء إلى شىء. والدَّعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر، والرغبة عن العلم وسرعة الخوف والحسد والنميمة والكذب والسعى إلى السلطان وذم الناس. وليست هذه الشرور عامة فيهم، فمنهم من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرّأه من الشرور». نشير هنا إلى أن رؤية المقريزى تشكلت فى ظل العصر المملوكى (القرن الخامس عشر)، وهو العصر الذى سادت فيه المظالم الاجتماعية وحل فيه البطش بالناس. كانت الأخلاق السائدة التى رصدها المقريزى من وسائل المجتمع لاتقاء شرور الحكام والأقوياء وكسب العيش والبقاء. فكرة تأثر الأخلاق بالاستبداد لها حضورها القوى فى ما كتبه عبد الرحمن الكواكبى عن «طبائع الاستبداد»، وذكر أنه «يُرغم الأخيار على ألفة الرياء والنفاق»، كما أنه يدفع الناس إلى «التسفل»، بمعنى التخلق بأخلاق السفلة. إن مِن الناسِ مَن يَتَعَرَّض إلى وحشية السلطة فيختار الطريق الأسلم والأكثر أمنًا وإثابة، ومنهم مَن يصيبه يأسٌ وإحباطٌ يدفعانه إلى سلوك نقيض. هناك أيضًا مَن يعيد تشكيل مواقفه تبعًا لمعطيات تَستجِدُّ على الساحة فيصوغ مبادئه وأفكاره بما يتماشى مع السائد، وبما لا يستعدى المجتمع عليه. يعرف علماء النفس الظاهرة الأخيرة جيدًا، ويفسرونها بما للمجتمع من تأثير مرعب وعميق على الأفراد، وتوضح دراسات كثيرة كيف يقهر المجتمعُ الفردَ، بحيث يصبح كما العجين، لينًا طيِّعًا، وقابلاً للفرد والمد والتكوير، وكيف يتم تعديله بحيث يغدو نموذجًا مثاليا لا يخرج أبدًا عن الإطار المرسوم للمجموع. أشار بعض الباحثين إلى محاولتهم نفى هذا الوصف المخيف: «قطعان الأغنام» عن البشر، لكنهم أكدوا فى ما بعد أنهم فشلوا فى تحقيق الهدف، فقد ثبت أن عملية «التطويع الذاتى» التى يقوم بها الأشخاص تحت ضغوط المجتمع هائلة الحجم والأثر. قد يؤدى هذا التطويع الذاتى إلى التماهى مع السائد والمألوف، والخضوع للشكل العام، كأننا بصدد زى موحد أو قالب محدد للفرد فى المجتمع الذى يحكمه طاغية. يستغل الطغاة والمستبدون هذه الرغبة فى التماثل، فى أن أكون مشابهًا للآخرين فى الرأى أو السلوك أو حتى الزى الموحد خوفًا من العزلة.. وتكون النتيجة أن نسير جميعًا مع التيار مهما كان الاتجاه، أو أن أدخل دائرة الصمت اللولبية.. وهى تلك الدائرة التى وصفتها عالمة الاجتماع الألمانية إليزابيث نويل نيومان فى سبعينيات القرن العشرين من خلال نظرية «دوامة الصمت» الخاصة بدور الإعلام فى تكوين الرأى العام والاتجاه السائد داخل مجتمع بعينه. تقوم هذه النظرية على فكرة أن الأفراد العاديين يلوذون بالصمت ويكتمون آراءهم عندما لا تأتى فى اتجاه الأغلبية، فهم حريصون على كسب قبول المحيط أو المجموعة التى ينتمون إليها ولا يودون أن يصيروا على الهامش. هذه حقيقة، تتجلى فى مصر بلا مواربة. هناك من يصمت لأنه يخشى الخروج عن التيار السائد. غير أن الصمت له ثمنه الباهظ فى نهاية المطاف.