ما الذى جرى فى تونس؟ هل ربحت الثورة أم عاد النظام السابق؟ خسر إخوان النهضة أم فازوا؟ لا تستطيع فى مصر أن تتجاهل المشهد المختلف جدًّا فى تونس، الصورة الحضارية لإدارة الخلاف السياسى. والنجاة من هذا الخلاف بأقل تكلفة عبر تنافسية تحتكم فيها كل الأطراف إلى الشعب. استقبل الأمر فى مصر فريقان، الأول كاره للإخوان تمامًا يربط بين هزيمة حركة النهضة وتراجع الإخوان فى المنطقة عبر إزاحة «شعبية عسكرية» فى مصر، وإزاحة «صندوقية» فى ليبيا ثم تونس، فى مصر دفع الشعب من جميع الأطراف فاتورة دم هائلة ناتجة عن رفض الإخوان الإجراءات «الشعبية العسكرية» وتمسكهم ب«الشرعية القانونية» للرئيس المنتخب، وفى ليبيا دخلت البلاد فى حرب أهلية طاحنة أيضًا بسبب رفض الإخوان النتائج «الصندوقية»، وانقلابهم على «الشرعية القانونية للبرلمان المنتخب»، وفى تونس اتجهت الأمور إلى عبور هائل. للخطوة الديمقراطية التالية، اعترف الإخوان بالهزيمة، وحملوا هذه الهزيمة لأخطائهم هم طوال العامين الماضيين، وليس شماعات غيرهم، وهنَّؤوا الحزب الفائز بالأكثرية. قطعًا الفوارق كثيرة بين طبيعة ما يُسمى ب«الدولة العميقة» فى البلدان الثلاثة، كذلك طبيعة تكوين الجيش وعقيدته ودوره التاريخى منذ تأسس البلاد المستقلة، بين مصر التى بنى جمهوريتها وأكمل استقلالها الجيش، وتونس التى حققت استقلالها حركة مدنية وأسس جمهوريتها زعيم مدنى «بورقيبة»، ناهيك بمستوى التعليم الذى يصب أيضًا فى صالح تونس. لكن رغم تأثير كل هذه العوامل، يبقى الفارق الواضح والأهم بين طبيعة إخوان النهضة وطريقة تفكيرهم ومسار حركتهم وأدائهم طوال العامين الماضيين، وبين غيرهم من إخوان المنطقة، خصوصًا فى مصر وليبيا، له التأثير الأكبر فى نجاح العملية السياسية ومبدأ الاحتكام إلى الصندوف فى تونس، وبالتالى تجنيب البلاد حدة الانقسام وخلق آلية لحسم الخلافات ديمقراطيًّا. الفارق بين إخوان تونس وإخوان مصر هو الفارق بين مَن دخل «مشروع الثورة» ليحقِّق لنفسه كل المكسب، ومَن دخل ليحقِّق كل المكسب للوطن، واثقًا أن ثمار هذا المكسب ستتساقط عليه دون شك، وستؤمن وجوده كلاعب رئيسى لا يمكن الاستغناء عنه أو إقصاؤه، وهو مفهوم واضح من خلال رصد أداء زعيم الحركة راشد الغنوشى، سواء فى الدخول للسلطة وفق «ترويكا» تشاركية من البدء، وعدم الغوص فى الخلاف الفكرى الإسلامى العلمانى، وتأكيده أن العلمانية ليست كفرًا، لكنها طريقة لتسيير الأمور، وكبحه محاولات خلط الدين بالسياسة، بطرحه المعادلة الوسطية فى «التمييز بين الدينى والسياسى، وعدم تحزيب المنابر»، وحتى قبوله التنازل فى صياغة الدستور، وانسحابه من الحكومة تمامًا حين خرجت المظاهرات فى الشارع تدعو لإسقاط الحكومة، وعدم التقدم بمرشح فى انتخابات الرئاسة. لماذا فعل الغنوشى كل ذلك؟ يجيب بنفسه بقوله: «النهضة لم تنسحب من الحكم، بل تنازلت لمصلحة تونس.. فنحن أعطينا الأولوية للعام على الخاص، وللوطنى على الحزبى، وجعلنا الأولوية فى إنجاح الخيار الديمقراطى، لأن منطق الأغلبية لا يصلح». واليوم ربحت تونس نظامها الديمقراطى وعمليتها السياسية المستقرة، وربحت النهضة وجودها كأكبر كتلة معارضة فى البرلمان، لا يستطيع أحد تجاهلها أو إقصاءها. هل كان يمكن أن نسبق تونس؟ قطعًا توالت الفرص الضائعة واحدة قبل الأخرى، وآخرها رفض الإخوان الاستفتاء على الانتخابات الرئاسية المبكرة التى خرجت من أجلها التظاهرات الحاشدة فى 30 يونيو، مصلحة مصر كانت فى إنقاذ الديمقراطية بقبول الاحتكام إلى الصندوق، ومصلحة التنظيم كانت فى مواصلة التعنت والتمسُّك بكل شىء أو لا شىء. ربحت تونس لأن إخوانها راهنوا على نجاحها.. وتعثَّرت مصر لأن إخوانها أرادوا هدم المعبد وجر الجميع إلى دوامات الخسارة.