فى هذا المقال سأناقش أحد المبادئ الرئيسية التى حكمت النظام العالمى المأزوم حاليا، والذى يعتقد هنرى كيسنجر أنه لن يقدر على البقاء، ومن ثم فمن الضرورى العمل على إقامة نظام جديد يحل محله، يقوم على أساس وحدة القيم والتعاون المشترك لتحقيق هذه القيم والمحافظة على السلام العالمى. وهذا المبدأ الذى أشار إليه كيسنجر واعتبره من أهم ركائز النظام العالمى «الوستفالى» هو مبدأ «عدم التدخل» والذى يعنى احترام السيادة الوطنية لكل دولة وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية. وكان هذا المبدأ يعنى عمليا أن المبرر الوحيد للحرب هو «الدفاع الشرعى عن النفس». وقد سقط هذا المبدأ عمليا عندما تعقدت الأمور فى البلقان، وبعد مذبحة سبرنيتشا ثم التدخل المسلح لحلف الأطلنطى فى كوسوفو عام 1999، حيث حل مبدأ «حق الحماية الإنسانية» محل عدم التدخل، ثم فى العراق عام 2003 عندما حل مفهوم جديد للتدخل ليس لأغراض الحماية الإنسانية ولكن لغرض «نشر الديمقراطية». وقد كان للولايات المتحدة دور كبير فى إسقاط مبدأ «عدم التدخل» خصوصًا عن طريق إضعاف أو تحييد دور الأممالمتحدة، والبعد بطريقة عمدية عن التوصل إلى ترتيبات جماعية فى إطار النظام العالمى من أجل حفظ الأمن والاستقرار فى العالم. لقد تحولت الولاياتالمتحدة منذ بداية القرن الواحد والعشرين، من دور القوة السياسية القطبية، إلى دور ما يمكن وصفه ب«قوة تبشيرية» تهدف إلى نشر قيمها وسياساتها فى العالم، حتى لو تم ذلك بالوسائل المسلحة والحروب العدوانية. وقد جاء هذا النهج «التبشيرى السياسى» مع جورج بوش الابن، ووجد صياغة واضحة له فى خطاب بوش فى مناسبة تنصيبه رئيسًا لفترة رئاسته الثانية عندما قال ما معناه إن انتصار الديمقراطية وبقاءها فى الولاياتالمتحدة يعتمد بالضرورة على انتصارها وبقائها فى بقية أرجاء العالم. هنا تجاوز بوش الابن كل قواعد وقوانين النظام الذى كان سائدًا فى العالم، ووضع قواعد جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، بررت لنفسها «حق التدخل» لأسباب تتعلق من وجهة النظر الأمريكية بنشر الديمقراطية أو بالحماية الإنسانية. ولا شك أن ما يسمى باستراتيجية «الفوضى المدمرة» أو «تغيير النظم» فى الشرق الأوسط، هما استراتيجيتان تم اشتقاقهما وتبريرهما من مبدأ التدخل. وهنا فإننا لا بد أن نقرر أن أية محاولة لإعادة النظر فى النظام العالمى الحالى، ووضع قواعد لنظام عالمى جديد، يجب عليها أولا أن تلفظ مبدأ التدخل فى شؤون الدول، سواء بواسطة الولاياتالمتحدة أو حلف الأطلنطى، وأن تعيد الاعتبار مرة أخرى لمبدأ عدم التدخل واحترام سيادة الدول، مع التسليم بأهمية وضرورة التغيير فى الدول غير الديمقراطية، بدون تدخل خارجى، أى أن يكون التغيير نابعًا من الداخل، ومعبرًا عن الشخصية الوطنية للشعوب وعن إرادتها المستقلة. إن هنرى كيسنجر فى كتابه الأخير، «نظام عالمى جديد»، لا يزال يستدعى القيم الأمريكية ويحاول فرضها على العالم، بل ويبرر استخدام القوة أحيانا تحت غطاء «ربط القوة مع المشروعية». هو يقول بوضوح إن دور الولاياتالمتحدةالأمريكية يجب أن يستمر فى قيادة النظام العالمى، لكنه يحدد طريقة أخرى لصياغة هذا الدور تعيد تكريس أزمة النظام الذى يعتقد هو أنه يقوم بتعديله أو تغييره. إن كيسنجر يعيد محاولة فرض «المفهوم الغربى للنظام العالمى»، متجاهلا قوى كبرى صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل إلى جانب روسيا، فى المشاركة فى صنع مفهوم وأسس النظام العالمى الجديد. ويقول هنرى كيسنجر إن على الولاياتالمتحدة أن تحدد أولويات سياستها الخارجية وفقًا لثلاثة معايير، الأول هو: ماذا يتعين على الولاياتالمتحدة أن تمنع حدوثه فى العالم؟ والثانى: ماذا تريد الولاياتالمتحدة أن تسعى لتحقيقه فى العالم؟ والثالث: هو ماذا يتعين على الولاياتالمتحدة أن تفعله، حتى بالاعتماد على نفسها فقط إذا تطلب الأمر؟ وماذا يتعين عليها أن تقوم به بالمشاركة مع حلفائها؟ إن كيسنجر كذلك لا يزال يعتقد أنه يتعين على الولاياتالمتحدة أن تتحمل مسؤوليتها فى نشر قيم الديمقراطية والحرية كما تفهمها الإدارة الأمريكية. وهذا كله يعنى أن أستاذ الدبلوماسية الأمريكى، لا يزال يدور فى الحلقة المفرغة التى أدت بالعالم إلى ما هو فيه من أزمات فى الوقت الحاضر. ومع كل ذلك فإن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن هنرى كيسنجر يحتاج منا إلى دراسة عميقة وإلى تأمل، سواء فى ما يقوله بشأن النظام العالمى إجمالا، أو بشأن توازنات القوى فى الوقت الحاضر، أو ما يقوله بشأن الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وأعود مرة أخرى لكى ألخص ما قاله كيسنجر بشأن الشرق الأوسط. قال الرجل بكل وضوح إن التحدى الحالى فى تلك المنطقة معقد ومتشابك، ويتضمن أساسا ضرورة العمل على إقامة نظام إقليمى، وضمان أن يكون هذا النظام الإقليمى للمنطقة متوافقًا مع متطلبات السلام والاستقرار فى بقية أنحاء العالم. وهذا كلام لا بد أن يستدعى للذاكرة قصة حلف بغداد!