هل تعرفون أين تكمن مأساة الجنرال؟ إنها تكمن فى عدم قدرته على الاعتراف بالخطأ. فضيلة التراجع عن الخطأ من الكماليات التى لا توجد أدنى فرصة للحصول عليها حتى فى أحدث الموديلات المعدَّلة من الجنرالات. فما بالك بالموديلات القديمة التى تجاوزت أعمارها الافتراضية بعشرات السنوات؟ بدقة أكثر، أيها الأعزاء، كل الجنرالات يتم تصنيعها بموديل كلاسيكى واحد، يتكرر منذ بدء التاريخ، ولا يختلفون إلا فى الأزياء والمقاسات. ببساطة هى موديلات لا تعرف فضائل الاستماع للرأى الآخر، ولا أقول قبولهم له -والعياذ بالله-، لأنها «أوبشنات» لا توجد لديهم فى الكتالوج. يبقى السؤال: لماذا؟ والإجابة الدقيقة توضح لنا أن الأعراف العسكرية تصل بها القسوة الطبقية إلى الحد الذى يجعلك على صواب على طول الخط، وإلى أبعد مدى يتخيله عقل أمام من هم أدنى منك فى الرتبة، وأيضا مخطئ على طول الخط، وإلى أبعد مدى يتخيله عقل أمام من هم أعلى منك فى الرتبة! هو شىء تفرضه فكرة إطاعة الأمر بلا تردد، حتى وإن بدت حماقته واضحة للعيان لعدة أسباب أهمها: أن العقيدة العسكرية تفترض أن القائد تحدد رؤيته معلومات غير متاحة لمن هم أدنى منه فى الرتبة يرى بمقتضاها الصواب البعيد الذى يبرر له الوقوع فى خطأ قريب يفزعك، لأن معلوماتك المحدودة تحرمك من فهم حكمة قراراته وقت اتخاذها. تلك المشكلة المخيفة لا يمكن حلها إلا بشيئين: الديمقراطية وحرية تداول المعلومات، وهذه دعابة بالطبع، لأنهما من المحرمات، بل ومن أكبر الكبائر فى الأنظمة العسكرية. فلا يمكن أن تسمح طبيعة النظم القتالية بهذا، لأنها تنشأ على تقديس رأى القيادة واحتقار فكرة التشاور مع بيادق الشطرنج التافهة التى يجب أن تضحى بحياتها طواعية ودون تذمر، لكى يحيا الملك حتى وإن ألقت قراراته الخاطئة بهم إلى التهلكة. الجنرال يشبه ما يسمونه بالإنجليزية: السيد الذى يعرف كل شىء Mr. Know it all وهذه العقلية هى ما تجعل من تواصلك معه كمدنى أمرا فى غاية الصعوبة والتعقيد، كما تجعل منه بالقطع معصوما عن الخطأ أمامك، لأنك لا تحمل أى رتبة على الإطلاق! ومن هنا تكمن رغبة الجنرالات دائما فى أن يكون رئيس بلادهم ذا خلفية عسكرية، لكى يسهل عليهم تنفيذ أوامره ولكى يكون اعترافهم أمامه بالخطأ أقل مشقة على النفس! الديمقراطية عار وجريمة لا تغتفر بالنسبة إلى العسكريين، لأنها تحمل فى طياتها تبادلا للرأى والمعلومات يفضح تفوقهم الزائف الذى يصنعه احتكارهم الحقيقة، والذى تجسده أشهر مقولاتهم الخالدة على الإطلاق: أطع الأمر ثم تظلم فى ما بعد! كما تتضح كراهيتهم البالغة لها أيضا، أعنى للديمقراطية، فى الحديث دائما عن مؤامرات لا يعرفها المواطنون الغافلون من أمثالنا، تحاك ضد الوطن ولا يتم إفصاحهم عنها، حيث يكفيهم تماما أن القائد وحده يعلم تفاصيلها! أكاد أسمع من يقول إنه يرى تشابها غريبا بين الجنرالات وبين أصحاب الأجندات السماوية التى لا يجوز لمخلوق أن يناقشهم فى مكنوناتها التى يفهمونها وحدهم، ويفسرونها بطريقتهم ولا يريدون لأحد أن يتجاسر ويختلف معهم فى تناولها وتفسيرها، وإلا تم اتهامه بمعصية الخالق. هم بالفعل جنرالات من نوع آخر ويتدرجون فى الرُّتب لكى يصل بعضهم إلى درجة أن يصبح آية الله أو المرشد العام الذى يتساوى فى رتبته مع المشير أو الفيلد ماريشال العسكريين. لهذا أيها الأعزاء لن أنتخب رئيسا ذا خلفية عسكرية أو دينية، لأننى لا أريد أن أطيع الأوامر قبل أن أناقشها، بل وقبل أن أشارك فى اتخاذها. كما أننى أكره استبعاد الديمقراطية وحرية المعلومات من الحياة المدنية. كما أننى أكره اليونيفورم وتوحيد الزى، عسكريا كان أم دينيا، لأنه يقتل التفرد ويحول البشر إلى أشباه، تلغى عقولها ولا تجيد سوى إطاعة الأوامر التى تصدر عن أشخاص قد يقلون عنا فى الذكاء والمعرفة بدعوى أنهم، أى القادة، منزهون عن الخطأ. فماذا عنك يا عزيزى؟ هل تقبل أن تنحصر خياراتك فى تولى رئاسة بلادك فقط بين جنرال عسكرى أو جنرال دينى؟! لقد دفعنا ثمنا باهظا للحصول على الديمقراطية التى تكفل لنا حق الاختيار الحر. تماما كما يدفع رجل ثروته التى شقا للحصول عليها ثمنا لسيارة فارهة، لكنه لم يدفع ثمن تعلم قيادتها بعد، ولهذا فقد يسلمها بحسن نية لمن لا يجيد استخدامها. إساءة استخدام رئيس البلاد المنتخَب والنواب المنتخبين لسلطاتهم قد يدفع الشعوب إلى الإطاحة بهم فى الديمقراطيات العريقة، حتى قبل انتهاء مدتهم بسحب الثقة منهم بالتظاهر ضدهم، واستخدام مؤسسات المجتمع المدنى لرفض قراراتهم، أو بالانتظار ليتم إسقاطهم بالإرادة الشعبية فى الانتخابات التالية. وكلها أثمان مقبولة يدفعها الناخب عن طيب خاطر شريطة أن لا يكون ثمن تعلم قيادة السيارة، أقصد الديمقراطية، هو التخييش بالوطن فى حائط يتعين بعده اللف والدوران على ورش السمكرة والميكانيكا والعفشة والدوكو، أملا فى استعادتها حالة مقبولة، تتيح استخدامها للانتقال إلى واقع أفضل بعد أن أفسدتها قيادة الجنرال واستخدامه لها فى مشاويره الخاصة! هذا أمر يبتعد تماما عن دائرة الخيال والتوقعات السيئة ولنا فى قيادة مبارك ونجله وعصابتهما للوطن أسوأ مثال على هذا. ألم يكن جنرالا يستميت رجاله الآن لاستعادة عصره بتوريث الحكم لجنرال جديد؟ أيها السادة لكم حرية الاختيار بين جنرال بلحية أو دون، فجميع الأنواع الآن متاحة بالأسواق، وعلى كل الأذواق والمقاسات.