أشرنا أكثر من مرة هنا وفى مساحات أخرى من التعبير، أن الضباط الذين شاركوا فى إنجاز ثورة يوليو عام 1952، كانوا على درجات من الثقافة، ورغم تباين وتنوُّع هذه الدرجات من الثقافة، فإن كل واحد منهم كان على درجة من الثقافة الأدبية والفكرية والوطنية، ربما القائد الوحيد الذى كانت علاقته بالثقافة الأدبية ضعيفة هو عبد الحكيم عامر، لأن ثقافته وتكوينه العسكريين كانا طاغيين على كل ما فى شخصيته، والذى يتأمَّل خطابات عامر سوف يلاحظ ذلك، خصوصًا عندما يتحدَّث بطبيعته ويخرج عن النص المكتوب له، وفى كتابه «72 شهرًا مع جمال عبد الناصر» للراحل فتحى رضوان، يسرد واقعة عن عامر وناصر عندما كانا يشاهدان أحد الأفلام الأجنبية، وكان تعليق ناصر ثاقبًا ومثيرًا بحكم ثقافته العميقة، أما عامر فلم يكن كذلك، وما عدا عامر من القيادات العليا، سنلاحظ أن الأسماء التى برزت فى ما بعد من مجلس قيادة الثورة، أو من الضباط الأحرار، كانت على هذه الدرجة من الثقافة والمشاركة فى الإنتاج، حتى صلاح نصر الرجل الذى اقترن اسمه بالجوانب السلبية فى مسيرة ثورة يوليو، كان قد ترجم كتابًا قبل قيام ثورة يوليو، وطبعًا أحمد حمروش ويوسف السباعى، وثروت عكاشة، وكمال الدين حسين، ويوسف الصديق «الشاعر»، ثم خالد محيى الدين موضوع حديثنا هنا، والثقافة عند خالد محيى الدين لم تكن ترفًا يمارسه فى أوقات الفراغ، ولم تكن نزهة خلوية يستمتع فيها بالهواء الطلق عندما يريد ذلك، ولكن الثقافة كانت جزءًا لا يتجزَّأ من البحث عن الهوية الوطنية، وفى اعترافاته لغالى شكرى فى كتابه المهم «المثقف والسلطة»، يقول محيى الدين: «لقد تعرَّفت على الحركة الوطنية المصرية تعرُّفًا حقيقيًّا فى صفوف القوات المسلحة عام 1942، وقد اقترن هذا التعرُّف بالقراءة، كانت الأسئلة المزمجرة فى أدمغتنا تدور حول مصر والاستقلال، وكانت القوى العظمى القديمة والجديدة تؤرِّق أحلامنا فى المستقبل، ماذا يحدث لو انتصرت ألمانيا؟ وماذا يحدث لو انتصر الحلفاء؟.. ولم تكن القراءة فى ذلك الوقت لمجرد الثقافة أو الترف العقلى، وإنما كانت معاناة وطنية، كانت بلادنا محتلة من الإنجليز، وكان الإنجليز يقاتلون الألمان، وبدت مصر كأنها تتفرَّج على الاثنين، وكان غضبنا غضبًا شديدًا لما حدث للملك فاروق فى حادثة 4 فبراير عندما حاصرت القصر الملكى الدبابات البريطانية لإرغام الملك على تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة»، وفى عام 1944 تعرَّف خالد على أول كتاب فى الاشتراكية العلمية، وهو كتاب للمفكر الفرنسى روجيه جارودى، وكان أحد الضباط من زملاء خالد قد أهداه إليه، وكان عنوان الكتاب «قوانين التطوُّر الاجتماعى»، وبعدها قرأ كتابًا بالإنجليزية عنوانه «الاشتراكية.. متى ولماذا وكيف»، ثم قرأ بعد ذلك بالإنجليزية كتاب: «لماذا يجب أن أكون اشتراكيًّا؟» ولجون ستريتى من الجناح اليسارى لحزب العمال البريطانى، وكذلك قرأ كتاب «الاشتراكية» لسلامة موسى فى هذه المرحلة المبكرة، ويؤكِّد خالد محيى الدين أنه كان يحضر اجتماعات تنظيم «إيسكرا» الشيوعى، ولكنه لم يكن عضوًا فيه، وبحكم تكوين خالد الدينى منذ الطفولة، فكانت هذه الكتب -رغم أهميتها- تطرح مشكلة الدين كما يقول، ولكنها تركت فيه تأثيرًا عميقًا من الناحية الفكرية، كذلك الجدّية التى كانت هذه الكتب تتناول بها القضايا، ومن كل ذلك تكونت شخصية خالد محيى الدين، التربية الدينية الأولى، ثم التربية العسكرية الثانية، ثم القراءة فى الكتب الاشتراكية ثالثًا، وكان قد تقاطع مع جماعة الإخوان المسلمين قليلًا، وسرعان ما انفصل عنها، وكان قد درس فى كلية التجارة، كل هذا جعله شخصية حيوية وعميقة وعنيدة فى الوقت ذاته، كذلك انفتاحه الموسوعى على الثقافات العديدة جعل الديمقراطية شعارًا أساسيًّا فى حياته، ولذلك اختلف مع رفاقه أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتولَّى مهمات أقرب للاعتزال الذى اختاره لنفسه، وفرضته عليه تطورات ثورة يوليو، ولكن فى عام 1956 أُصدرت جريدة «المساء»، وتولَّى رئاسة تحريرها، ليجعلها الصحيفة رقم 1 فى الحياة الصحافية والثقافية المصرية، وكان يكتب افتتاحيتها كل يوم، وتعتبر مقالاته بانوراما شاملة وعميقة لكل ما كان يجرى فى تلك السنوات، وفى 20 سبتمبر 1958 كتب مقالًا عن المفكر الراحل سلامة موسى، وذلك بعد رحيله مباشرة، وطالب فيه بتدريس كتبه فى الجامعات، وقلما نجد الآن ضابطًا يحمل مثل هذا التوجُّه ومثل هذه الثقافة، فإذا كانت سمة ضباط يوليو أنهم كانوا مثقفين، فكل ما أرجوه من الله أن يتمتع ضباطنا فى الوقت الحالى بمثل هذا النزوع، ويكتب محيى الدين فى مقاله: «حضرت يوم الخميس الماضى حفل تأبين سلامة موسى الكاتب الوطنى الكبير، الذى افتقدته العروبة فى شهر أغسطس الماضى، وأحسست فى هذا الحفل بعظمة الفكر الإنسانى وتقديره من الناس كافة، لقد كان سلامة موسى كاتبًا ومفكرًا قدَّم لبنى وطنه 45 كتابًا أو درة من درر الفكر، كان سلاحه القلم فى مكافحة الأفكار الضارة الخبيثة، وظل يحمل هذا القلم حتى اليوم الأخير مثله مثل الجندى الذى يموت فى الميدان حاملًا سلاحه.. إن المتابع لتاريخ حياة سلامة موسى يجدها مليئة بالحب للناس وللإنسانية كلها.. ومليئة بالبغض والكراهية لأعداء الشعوب والسلام والتقدُّم»، وبعد أن يعدّد محيى الدين صفات ومناقب سلامة موسى ينهى مقاله ب«من أجل هذا كله ينبغى أن تكون حياة سلامة موسى وكتاباته مادة تُدرَّس للطلبة فى مدارسنا وجامعاتنا كمَثل للكاتب المناضل من أجل الحقيقة، ومَثل لحب الشعب والناس والسلام.. إن خير عمل تقوم به حكومتنا وهيئاتنا الأدبية والفنية هو تقييم كتابات سلامة موسى بالنسبة إلى تاريخنا الفكرى والسياسى»، ورغم أن هذا النداء مرّ عليه أكثر من خمسين عامًا، فإن مطلب تدريس كتابات سلامة موسى فى الجامعات والمدارس ضرورة ملحّة، وليس ترفًا نبتعد عنه، لذلك أضم صوتى إلى صوت القائد خالد محيى الدين، الذى لا بد أن تلتفت مؤسسة ثقافية كبرى إلى جمع وإعادة نشر كل ما كتبه فى الفن والتاريخ والسياسة، لأن ما كتبه محيى الدين جزءًا لا يتجزَّأ من تاريخ مصر السياسى.