وسط غابات من ناطحات السحب يبدو هذا المبنى بطابع المعمارى القوطى غريبا، يقصده فقط عشاق الجمال، واحة هادئة بعيدا عن إيقاع المدينة المادى الصاخب، متحف المتروبوليتان هو أجمل مكان على سطح كوكبنا، يجمع أندر ما فيه من تحف فنية فى مكان واحد، مساحته 2 مليون قدم مربع، ويضم 3 ملايين قطعة من كل حضارات الأرض، لقد رأيت أعظم متاحف العالم، كلها فتنت روحى وملأت قلبى بالبهجة، ولكن لم أجد شبيها لهذا المتحف. إنها قوة المال عندما تمتزج بالثقافة والشغف بتذوق الفن، فهو يختصر فى أروقته تاريخ البشرية، من ثقافتها البدائية، حتى آخر لمسة من الحداثة، وهو أيضا أكبر موسوعة فى تاريخ الفن، أنشئ عام 1870 بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب الشرسة التى دارت رحاها بين الشمال والجنوب، وبدأت أمريكا تخرج من قوقعتها المحلية وتعلن وجودها على العالم، كانت أنظارها مسلطة على متحف اللوفر العظيم، وأرادت أن تنشئ متحفا مختلفا، لا يعرض بضع قطع منتقاة، ولكن يعرض الصورة بأكملها، معبد فرعونى كامل، قاعة دمشقية بأثاثها، جناح مقتطَع من أحد القصور الفرنسية، معسكر للهنود الحمر، غرفة من قلعة إقطاعية، مصلّى من كنيسة من القرون الوسطى، مجموعات فنية كاملة تحوى أندر لوحات الفن التأثيرى، معالم حضارية لا يُتصور إمكانية نقلها من مواقعها الأصلية إلى أطراف حديقة «السنترال بارك». ودون تحيز فإن الجناح المصرى هو أهم الأجنحة وأكثرها جذبا للزائرين وطلبة الفن، ولكن حتى قبل أن ندخل كانت مصر حاضرة على الرصيف، واحدة من عربات الوجبات السريعة التى تنتشر على كل أرصفة نيويورك، معظم الذى يعملون عليها من المصريين، أحدهم اختار الرصيف المقابل للمتحف وفتح حنجرة عبد الباسط حمودة على اتساعها، ولكن داخل المتحف توجد مصر المختلفة، الحضارة التى يؤكدون لنا أنها من صنع أجدادنا، رغم أنى لم أعد متأكدا من ذلك، تماثيل الدولة القديمة بكل ما فيها من مهابة وشموخ، أوابد عملاقة لا ندرى كيف خرجت وحملتها السفن إلى هنا، وأى لصوص نقبوا وأخرجوا هذا الأثر النفيس، وحافظوا على سلامته قبل أن يبيعوه بخسا لقاء جنيهات بائسة، أمام كل تمثال يجلس طلبة المدارس مبهورين يحاولون نقل خطوط الحجر على الورق، لا يحدث هذا فى أى أجنحة أخرى، تماثيل للملكة حتشبسوت، واحد يصورها وهى فتاة رقيقة حالمة مثل أى قروية، وتمثال آخر لها وعلى رأسها غطاء الحكم وحول وجهها لحية مستعارة تكسبها بعضا من القسوة، ثنائية كل حكام مصر، غير أننا لا نرى جانبهم الرقيق، لا نرى إلا إهاب الآلهة الذى يرتدونه، فى قاعة بجانبها توجد مقتنيات مقبرة فرعونية كاملة، صورة ضخمة على طول الجدار للمقبرة فى لحظة الاكتشاف، وسط الركام تبرز تحف فنية، يتصدرها تمثال هو قطعة من الجمال الخالص، لا يقل رهافة عن رأس نفرتيتى، فلاحة مصرية ممشوقة، غصن بان، تلبس ثوبا مطرزا وفوق رأسها سلة الخضار ويدها الأخرى تمسك بإوزة تتلوى، تبدو كأن الفنان قد انتهى للتوّ من تلوينها، كيف اجتازت حدودنا، وكيف غشيت عيون الحرس فلم يبصروا هذا البهاء. قاعة أخرى للحلىّ المصرية، عقود وقلائد وأساور من الذهب والفيروز وأحجار أخرى كريمة، تحف فنية صالحة للزينة فى كل زمان، يقال إن ملكة مصر السابقة سوزان مبارك تحتفظ بعُقد نادر مثل هذا، لم يجرؤ أحد على سؤالها عنه حتى الآن. أما أكبر قاعات المتحف فهى مخصصة للمعبد المصرى «دندرة»، تلقته أمريكا كهدية عندما قام الرئيس نيكسون بأول زيارة لمصر، وكانت هدية ثمينة من الرئيس السادات الذى كان يمتلك مصر وقتها بما فيها من بشر وحجر، وكان يعتقد بذلك أنه يجنّب صديقه السقوط فى فضيحة ووترجيت، فلم ينجُ ولم ينجُ السادات نفسه من القتل، ولا تظهر قيمة الهدية بكامل روعتها إلا إذا رأيت المعبد منتصبا فى هذه الأرض الغريبة، بعد أن كان معرضا للغرق فى كل عام، وقد حافظوا على طابع المعبد، فحفروا قناة ممتلئة بالماء تحيط به من كل جانب، وزرعوا بجانبها أشجار النخيل، ولم ينسوا أن يضعوا على جانبيه تمثالين أصليين لأبى الهول ليقوما بحراسته، إضافة إلى ذلك أقيم معرض توثيقى من الصور تبين حالة المعبد البائسة عندما كان فى مصر، وكيف تم تنظيف جدرانه من الكتابات العشوائية، وهو مكون من بوابة حجرية ضخمة، وخلفها يوجد جسم المعبد نفسه أو ما يسمى قدس الأقداس، وأمامه يقف عشرات الزوار فى طابور طويل حتى يستطيعوا المرور بين الجدران الحجرية بما عليها من نقوش لعلها تحميهم من اللعنات المعاصرة. جولات المتحف لا تنتهى، وكل مكان لا يقل إدهاشا عن الآخر، ولكن عندما خرجنا فى نهاية اليوم الطويل كان عبد الباسط حمودة لا يزال يصرخ، وفى أحد برامج المسابقات على الشبكة الوطنية، سأل المذيع أحد المتفرجين، أى شىء كان أفضل فى الزمن القديم، ولم يعد كذلك فى زمننا الحالى، ورد المتفرج على الفور: «المصريون، زمان كان فى استطاعتهم أن يبنوا الأهرام أما اليوم فهم عاجزون عن إيجاد الكهرباء».