فى البداية هتفت جموع الشعب من قلوبها بكل الصدق: الجيش والشعب إيد واحدة.. مع هدوء المشاعر والميل للتحليل بالعقل بدأ المعلقون يميلون إلى أن الجيش انحاز إلى الشعب الثائر بسبب رفض العسكر مشروع التوريث الذى أراد مبارك فرضه على مصر كلها، بما يعنى خروج الحكم من أهل المؤسسة العسكرية وذهابه إلى جمال مبارك. وعلى الرغم من عدم دخول هذا الكلام إلى عقلى فإننى تصورت الأيام قد تحمل ما يؤكده، لكن بعد مرور عام كامل على اندلاع الثورة ووقوع الحكم فى حجر العسكر فإننى أصبحت أشك فى مسألة أن الجيش كان يعارض التوريث، وأنه استغل فرصة الثورة ليستعين بشعب مصر ويضرب هذا المخطط فى مقتل ويَئده إلى الأبد. أنا لا أقول إن الجيش كان يحب جمال مبارك، ولكنى أستغرب من فكرة أنه كان يخشى مجيئه! ما الذى يجعل كبار العسكريين يتوجسون من جمال مبارك ولا يرحبون باعتلائه العرش؟ هل خشوا مثلا من أن يعيّن أحمد عز وزيرا للدفاع أو أن يأتى بإبراهيم كامل رئيسا للأركان؟ أنا لا أزعم أن عندى الإجابة عن هذا السؤال، لكننى أدعو القراء إلى التفكير فيه.. ما الذى يجعل الجيش الذى رحب بحسنى مبارك وائتمر بأوامره طوال ثلاثين سنة يتمنى بينه وبين نفسه أن يفشل مشروع التوريث ويتخذ من ثورة الشعب تُكأة لإزاحة جمال مبارك؟ قد يقول قائل إن جمال هو نتاج المشروع الأمريكى الذى يضع الثروة فى يد عدد محدود من القراصنة وينظر إلى الشعب على أنه مجموعة من الأيدى العاملة الرخيصة التى يمكن استخدام مجهودها فى مراكمة مزيد من الثروة.. وهذا بالطبع صحيح تماما، ولكن ألم يكن حسنى مبارك هو مؤسس هذه المدرسة التى لم تعارض الأمريكان فى أى شىء، وفتحت لهم الوطن فاستباحوه؟ إن العسكر قد سكتوا عن كل هذا من مبارك، فما الذى يجعلهم يضيقون بالأمر نفسه لو أتى من جمال؟ قد يقول قائل إن جمال هو ربيب الصهاينة ومؤيد مزيد من الخضوع لهم وتنفيذ كل ما يأمرون به حتى لو سرطنوا الزراعة ومنعوا تعمير سيناء وأطلقوا النار متى شاؤوا على الجنود المصريين؟ وهذا أيضا صحيح كل الصحة، فقد كان جمال فاقدا للوطنية بكل معانيها، ولكن أليس حسنى مبارك هو كنز إسرائيل الاستراتيجى الذى خدمهم بما لم يحلموا به؟ ولهذا اعتبروه أكثر الشخصيات تأدية للخدمات إلى الشعب اليهودى بعد بن جوريون، وهو يسبق فى هذا الترتيب شخصيات، مثل مناحم بيجن وموشى ديان وإسحق رابين! أليس مبارك هو الذى خنق الفلسطينيين وأغلق فى وجههم المعبر وسهل للإسرائيليين التغلغل فى العراق والإجهاز على عروبته، كما تركهم يرتعون فى السودان ويفتتون وحدته ويقيمون دولة عميلة لهم فى جنوبه؟ أليست خدماته لهم هى التى ساعدت على تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات؟ فما الذى يجعل العسكريين الذين لم تفزعهم تنازلات مبارك المخزية وتراجعه أمام الإسرائيليين وسكوته على قتلهم جنودنا.. ما الذى يجعلهم يتصورون أن الولد الصغير سيكون مختلفا عن أبيه، أم ظنوا أن التفريط على يد جمال سيكون أكبر مما حدث بواسطة أبيه؟ قد يقول قائل إن جمال مبارك كان سيزوّر الانتخابات ويأتى بأصحابه على رأس المجالس النيابية، كما أنه سيقوم بتعيين أسافل البشر فى الوزارات المختلفة، الأمر الذى سيهوى بالأداء فى مجالات الصحة والتعليم والصناعة والزراعة.. ولكن ألم يفعل حسنى مبارك كل هذا فابتكر وسائل جديدة فى التزوير وأتى بكل فاجر ووضعه على رأس مؤسسة، فخرب كل شىء بعدما قرّب الأوساخ وأزاح الشرفاء وأسكن الناس المقابر وأطعمهم الخضراوات المرويّة بماء المجارى وأصابهم بالسرطان والفشل الكلوى والكبدى وجعل الموت حلما للفقراء فى هذا الوطن.. لقد فعل مبارك الكبير كل هذا دون أى معارضة أو تململ من رجال المجلس العسكرى.. فما الذى يجعلهم يرفضونه إذا أتى من جمال؟ قد يقول نفس القائل: ولكن حسنى قد أتاح للعسكريين امتيازات كبيرة وسمح لقطاع اقتصادى كبير أن ينمو داخل الجيش ويدر مكسبا هائلا غير خاضع للضرائب أو الرقابة أو المحاسبة.. نعم نعم، ولكن هل جمال مبارك كان يجرؤ أو حتى يرغب فى المساس بامتيازات الجيش وأنشطته الاقتصادية؟ بالتأكيد لم يكن ليفعل.. إن جمال مبارك كان هو النسخة المصغرة من أبيه المتوحش القاسى الذى جعل من مصر العظيمة وطنا للعار، وكان بالتأكيد سيمضى فى نفس المسار بكل همة وإصرار، فما الذى يجعل العسكريين الذين كانوا موالين لمبارك على كل سوءاته ومخازيه يرفضون ابنه؟ قد يقول قائل: لعلها العصبية القبلية التى تنحى كل ما سبق جانبا وترفض أن يحكم مصر شخص من غير ذوى الخلفية العسكرية وهى التى ظلت تحت حكم العسكر منذ يوليو 52. وعلى الرغم من غرابة هذا التصور وعدم موضوعيته فإنه قد يكون صحيحا، ولكن يتعين هنا أن نواجه أنفسنا بالسؤال الآتى: وهل كانوا يتصورون أنهم بإزاحة مبارك الكبير ودفن مشروع مبارك الصغير سيفرضون مرشحا عسكريا ويصلون به إلى رئاسة الجمهورية؟ والإجابة هنا ليست لى، لكنها متروكة لشعب مصر الذى نزلت جحافله إلى ميدان التحرير تعلن رفضها حكم حسنى مبارك وحكم المجلس العسكرى الذى يحب حسنى مبارك، لكنه يرفض جمال مبارك!