يعتقد كثيرون منا أن أحد أسباب نكبات العرب انفراد الحكام بالقرار السياسى السيادى، وخضوعهم لأهوائهم ولعواطف أو أطماع غير منضبطة، وجهلهم التام والمريع بشؤون مجتمعهم والعالم، ورفضهم الاعتماد على المؤسسات وعلى أهل الخبرة وعلى الدراسات الأولية، وعدم قدرتهم على استيعاب فنون الاستراتيجية، ونعتقد أيضا أن الحكام الغربيين يعتمدون على مؤسسات تجمع المعلومات وتحللها، وتدرس البدائل من مختلف الزوايا وتختار أحسنها، تحدد المشكلة والحل والموارد لتمويل هذا الحل والهيئات والعناصر البشرية المشتركة فى التنفيذ، ونندب حظنا. وهذا التصور يبسّط الأمور بطريقة مخلّة، فالعالم العربى يعرف العمل المؤسسى وعملية اتخاذ القرار فى الغرب لا تتسم فى أحوال كثيرة بالعقلانية المطلقة أو حتى النسبية كما نفترض، فمن الجلى الواضح على سبيل المثال أن القرار الأمريكى بشنّ حرب ضد العراق سنة 2003 أو القرار الفرنسى بالتدخل فى ليبيا سنة 2011 اتّخذا دون دراسة جادة ودون تفكير كافٍ، ولعبت العواطف والأهواء دورا محوريا فى الحالتين، ورفض أصحاب القرار الاستماع إلى الآراء المختلفة، وأهملوا تقارير المؤسسات المختصة المالكة للخبرة والمعرفة، ويقال إن السيد آلان جوبيه، وزير خارجية فرنسا آنذاك، علم بالقرار من خلال وسائل الإعلام، وفوجئ به وغضب غضبا شديدا. لا أتحدَّث هنا عن التوازنات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وعن مراقبة الثانية للأولى، أتحدَّث عن العلاقة بين صاحب أو أصحاب القرار، أيا كان موقعهم والمؤسسات المنتجة لنوع من المعرفة فى تخصص ما، ومن الواضح أن أصحاب القرار من حقهم عدم الاعتداد بآراء تلك المؤسسات، وقد ينصّ القانون فى بعض الدول على وجوب استشارة هيئة ما قبل اتخاذ قرار ما فى مجال ما، وقد يلزم صاحب القرار بتحرير رد مسبب إن اختار تجاهل توصية تلك الهيئة، لكن الأصل أن صاحب القرار سيده ويتحمَّل المسؤولية السياسية «وأحيانا الجنائية» إن أخطأ. ومن الواضح أن المؤسسات المنتجة للمعرفة وللتحليلات قد تخطئ وقد تصيب، شأنها شأن أى إنسان، فالتاريخ المعاصر حافل بالأمثلة الدالة، فالرئيس الأمريكى السابق جيرالد فورد، القليل الخبرة بالسياسة الدولية، قرَّر سنة 1975 تجاهل إجماع الخبراء، ووافق على توقيع اتفاقية «هيلسنكى» مع الاتحاد السوفييتى، القائمة على الصفقة التالية، اعتراف أمريكى بالحدود الناجمة عن الحرب العالمية الثانية، مقابل اعتراف مكتوب من السوفييت بوجوب احترام حقوق الإنسان، رأت المؤسسات أنه قدّم تنازلا حقيقيا مقابل مكسب رمزى وتافه، وقدر هو أن العكس صحيح، الاعتراف الأمريكى بالحدود لا يقدّم ولا يؤخّر، بينما التنازل السوفييتى سيعقّد علاقاتهم مع الدول التابعة إليهم، وانتقد فورد من قبل الإعلام وأهل الخبرة والسياسيين، إلا أن الأحداث أثبتت أنه كان محقا، إذ أعطت وثيقة «هيلسنكى» دافعا قويا وأسانيد قانونية لمناهضى الحكم الشيوعى فى دول عديدة. أثبتت بعض الدراسات أن «التفكير الجماعى» له مخاطره، ولا يضمن بالضرورة الوصول إلى أحسن الحلول، إذ يريد المشاركون فى الحلقات والجلسات النقاشية الممهدة لعملية اتخاذ القرار التوصل إلى إجماع، وقد يرغبون فى إظهار التمسك بمعتقدات وقيم المجموعة، وقد يكون من لا يجيد عرض حججه هو صاحب الرأى السديد، إلخ. لا ندعو بالطبع إلى عدم اللجوء إلى المؤسسات المالكة للمعرفة والتحليلات، ولا نؤمن بنظرية الزعيم الملهم المعصوم من الخطأ، ولا نقول إن تجاهل رأى أهل الخبرة هو الأصل، نقول فقط إن الثنائية السهلة والمريحة «قرار فردى غير مدروس ضد قرار جماعى تنتجه المؤسسات» غير دقيقة ولا تسعفنا كثيرا. ويقول من درس عمليات اتخاذ القرار فى دول متقدمة وعريقة أن نموذج العقلانية المطلقة «تحديد صارم للمشكلة، بحث الخيارات وتقييمها بدقة، اختيار حاسم للحل الأمثل، إيجاد الموارد وتعيين القائمين والمشرفين» لا يوجد فى الواقع، فهو كلام مثالى لا يصلح لوصف عملية صنع القرار، وللحديث بقية.