تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعا مميتا بين قوى طامحة إلى إعادته للوراء إلى ما قبل سقوط الدولة العثمانية وقوى تسعى إلى تحديثه والمحافظة على استقلاله من سيطرة القوى الأجنبية. لقد تحرك خط الصراع الدولى مئات الكيلومترات إلى الشرق منذ نهاية حروب البلقان الأخيرة، والتى نتج عنها تفكيك أوروبا الشرقية إلى عناصرها الصغرى، وتفكيك دول بأكملها مثل يوغوسلافيا التى كانت ضحية رئيسية من ضحايا مرحلة ما بعد الحرب الباردة. إن خط الصراع الرئيسى فى العالم اليوم والذى يمتد من أوكرانيا شمالا إلى خليج عدن والقرن الإفريقى جنوبا مرورا بمنطقة شرق البحر المتوسط قد وضع مصر فى مركز الصراع الدولى لا محالة. وهذا المكان الذى تحتله مصر الآن جعلها عرضة لاستقطاب حاد وسط هذا الصراع، خصوصا أنها نجت خلال «ثورات الربيع العربى» من مصيدة الوقوع فى حرب أهلية أو التورط فى الصراعات المسلحة الدائرة حولها، خصوصا فى ليبيا وسورياوالعراق واليمن. وقد اجتذبت حركات التغيير التى عصفت بالمنطقة منذ نشوب ثورة 25 يناير فى مصر أقطابا كثيرة دولية وإقليمية راح كل منها يحاول أن يلوى عنق حركات التغيير لصالحه. وبينما دفعت الولاياتالمتحدة بطوابيرها المتنوعة للعمل بكل طاقتها من أجل ضمان استمرار المنطقة داخل حيز استراتيجية «الفوضى المدمرة» التى تتبناها الخارجية الأمريكية، فإن روسيا، باعتبارها الوريث الشرعى للاتحاد السوفييتى، تمسكت بكل قوة بخط دفاعها الأخير عن وجودها فى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو نظام بشار الأسد فى سوريا. وقد التقت فى دمشق إرادة ثلاثة أطراف هى روسياوإيران والصين لدعم بقاء بشار الأسد ونظامه. وفى الخليج اعتقدت إيران أن فرصتها قد لاحت فى الأفق لخلط الأوراق سياسيا وطائفيا بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار والتوتر تمتد من البحرين إلى اليمن، وتجد ظهيرا لها فى كل المنطقة الواقعة بين العراق ولبنان شمالا إلى السودان جنوبا. أما حلف الأطلنطى، المنظومة الدفاعية الوحيدة فى العالم التى ظلت على قيد الحياة بعد انتصار الولاياتالمتحدة فى الحرب الباردة وتدمير حلف وارسو، فإن قيادته راحت تسعى، بالتنسيق مع السياسة الخارجية الأمريكية، إلى الدفع بعملاء وبأسلحة وعتاد وبقوى حليفة إلى صدارة المشهد فى الملعب، بقصد ضمان إدارة الصراع الشامل فى منطقة الشرق الأوسط بطريقة محكومة وداخل نطاق السيطرة. وكانت تركيا فى مقدمة القوى الحليفة اللاعبة كوكيل إقليمى للحلف، بينما كانت الجماعات المسلحة فى ليبيا وسوريا وجماعة الإخوان وأخواتها فى مصر، بمثابة العملاء الذين يستخدمهم الحلف والولاياتالمتحدة، من أجل ضمان تحقيق أهداف الاستراتيجية المشتركة للعالم الغربى فى منطقة الشرق الأوسط. هكذا تبدو الصورة مثل رقعة شطرنج يتحرك فوقها لاعبون، لكنهم ليسوا جميعا من طبيعة واحدة. فبين اللاعبين دول مثل الولاياتالمتحدة أو روسيا، وبين اللاعبين جماعات مسلحة مثل «داعش» و«حزب الله» و«حماس» والإخوان والنصرة وأنصار الشريعة والحوثيون وجماعات متفرقة منتمية إلى القاعدة. وبين اللاعبين أيضا منظمات دولية متعددة الأطراف مثل حلف شمال الأطلنطى. ومن الطبيعى أن قواعد الاشتباك فى صراعات معقدة من هذا النوع بما تشهده من تقلبات وتسارع فى الأحداث، يضعنا فى مواجهة خيارات تتميز بالقدر نفسه من التعقيد والتشابك. وقد عبرت هذه التقلبات عن نفسها فى لحظات كثيرة بما كان يقع فجأة من تبدلات فى موازين القوى فى العراق أو سوريا أو ليبيا أو ما حدث فى مصر، عندما نجح الإخوان فى أن يركبوا ثورة وقفوا ضدها منذ اليوم الأول، ثم وجدوا أنفسهم يملكون سلطة ظلوا يحلمون بامتلاكها لمدة تقرب من قرن من الزمان، ليجدوا أنفسهم فجأة وهم يسقطون من علياء تلك السلطة، ليصبحوا فى أقبية السجون أو مطاردين فى الشوارع! لقد كانت هذه التقلبات الحادة فى المراكز السياسية للأطراف المتصارعة فى الشرق الأوسط منذ اندلاع ثورات الربيع العربى علامة من العلامات المميزة للصراعات. ولم تتوقف هذه الظاهرة عند حدود نفوذ الجماعات المسلحة، وإنما شملت أيضا الدول اللاعبة فى الصراع، فتركيا التى كانت قاب قوسين أو أدنى من قمة الزعامة الإقليمية، تراجع نفوذها بعد اندحار الإخوان فى مصر وفى ليبيا، كما ساء موقفها أكثر وأكثر بعد تماسك نظام الأسد فى دمشق، بعد أن كان هو الآخر قاب قوسين أو أدنى من السقوط! إن هذه التقلبات الحادة فى موازين القوى بين لحظة وأخرى تؤكد الطبيعة المعاندة القاسية المستعصية على الهزيمة لدى بعض الأطراف فى المنطقة. وتبدو مصر فى مواجهة هذه التقلبات كأنها الطرف الرئيسى فى المعادلة الذى يملك إمكانات الاستقرار وفرض التوازن فى منطقتنا الملتهبة. تشهد على ذلك حرب غزة الأخيرة، وهو ما يزيد من شهوة الولاياتالمتحدة وحلفائها للضغط من أجل دمج مصر فى دفاعات حلف الأطلنطى. وسوف يظل غياب نظام دفاعى إقليمى للمنطقة ينبع من داخلها عاملا من عوامل الخلل الذى يهيئ الفرصة لاستمرار هذا الضغط.