استقرار أسعار الذهب في مصر بعد تراجع الدولار    عاجل:- السعودية تمنع دخول مكة لحاملي تأشيرات الزيارة خلال موسم الحج    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 23 مايو 2024    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 23 مايو    فلسطين.. إصابات جراء استهداف زوارق الاحتلال الصيادين شمال غرب خان يونس    ماذا يعني اعتراف ثلاث دول أوروبية جديدة بفلسطين كدولة؟    باحثة ب«المصري للفكر والدراسات»: قلق دولي بعد وفاة الرئيس الإيراني    العثور على ملفات حساسة في غرفة نوم ترامب بعد تفتيش مكتب التحقيقات الفيدرالي    ليلة التتويج.. موعد مباراة الهلال والطائي اليوم في دوري روشن السعودي والقنوات الناقلة    تعليم الجيزة تكشف حقيقة تسريب امتحان الدراسات الاجتماعية بالجيزة    أخبار مصر: منع دخول الزائرين مكة، قصة مقال مشبوه ل CNN ضد مصر، لبيب يتحدث عن إمام عاشور، أسعار الشقق بعد بيع أراض للأجانب    محمد صلاح يثير الجدل مجددًا بنشر غلاف كتاب "محاط بالحمقى"    اللعب للزمالك.. تريزيجيه يحسم الجدل: لن ألعب في مصر إلا للأهلي (فيديو)    نشرة «المصري اليوم» الصباحية..قلق في الأهلي بسبب إصابة نجم الفريق قبل مواجهة الترجي.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم قبل ساعات من اجتماع البنك المركزي.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم الخميس 23 مايو 2024    رحيل نجم الزمالك عن الفريق: يتقاضى 900 ألف دولار سنويا    أول دولة أوروبية تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو.. ما هي؟    ناقد رياضي: الأهلي قادر على تجاوز الترجي لهذا السبب    والد إحدى ضحايا «معدية أبو غالب»: «روان كانت أحن قلب وعمرها ما قالت لي لأ» (فيديو)    سيارة الشعب.. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيها    سر اللعنة في المقبرة.. أبرز أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسل "البيت بيتي 2"    وأذن في الناس بالحج، رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادا للركن الأعظم (صور)    رئيس الزمالك: شيكابالا قائد وأسطورة ونحضر لما بعد اعتزاله    ارتفاع عدد الشهداء في جنين إلى 11 بعد استشهاد طفل فلسطيني    هل يجوز للرجل أداء الحج عن أخته المريضة؟.. «الإفتاء» تجيب    محافظ بورسعيد يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية بنسبة نجاح 85.1%    ضبط دقيق بلدي مدعم "بماكينة طحين" قبل تدويرها في كفر الشيخ    المطرب اللبناني ريان يعلن إصابته بالسرطان (فيديو)    بالأسم فقط.. نتيجة الصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2024 (الرابط والموعد والخطوات)    4 أعمال تعادل ثواب الحج والعمرة.. بينها بر الوالدين وجلسة الضحى    أمين الفتوى: هذا ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    تسجيل ثاني حالة إصابة بأنفلونزا الطيور بين البشر في الولايات المتحدة    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23 مايو في محافظات مصر    وزير الرياضة: نتمنى بطولة السوبر الأفريقي بين قطبي الكرة المصرية    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    تشييع جثمان ضحية جديدة في حادث «معدية أبو غالب» وسط انهيار الأهالي    بالأرقام.. ننشر أسماء الفائزين بعضوية اتحاد الغرف السياحية | صور    ماهي مناسك الحج في يوم النحر؟    سي إن إن: تغيير مصر شروط وقف إطلاق النار في غزة فاجأ المفاوضين    محمد الغباري: مصر فرضت إرادتها على إسرائيل في حرب أكتوبر    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    محمد الغباري ل"الشاهد": اليهود زاحموا العرب في أرضهم    بسبب التجاعيد.. هيفاء وهبي تتصدر التريند بعد صورها في "كان" (صور)    22 فنانًا من 11 دولة يلتقون على ضفاف النيل بالأقصر.. فيديو وصور    مراسم تتويج أتالانتا بلقب الدوري الأوروبي لأول مرة فى تاريخه.. فيديو    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    مختار مختار : علامة استفهام حول عدم وجود بديل لعلي معلول في الأهلي    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    «الصحة» تكشف عن 7 خطوات تساعدك في الوقاية من الإمساك.. اتبعها    أستاذ طب نفسي: لو عندك اضطراب في النوم لا تشرب حاجة بني    هيئة الدواء: نراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين عند رفع أسعار الأدوية    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى مستهل التعاملات الصباحية الاربعاء 23 مايو 2024    طالب يشرع في قتل زميله بالسكين بالقليوبية    عمرو سليمان: الأسرة كان لها تأثير عميق في تكويني الشخصي    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميدان التحرير في ميزوري.. لماذا لن يثور الأمريكان كالمصريين؟
نشر في التحرير يوم 23 - 08 - 2014

فى بلدة فيرجسون الصغيرة فى ولاية ميزورى الأمريكية، التى أشهر مدنها هى مدينة سانت لويس، بدأت المشكلة بمقتل شاب أمريكى أسود غير مسلح بست رصاصات أطلقها عليه رجل بوليس أبيض، ولأن هذه ليست أول مرة فى أمريكا يقتل فيها البوليس الأبيض رجلا أسود، ولأن هناك ميراثا طويلا وبشعا من الاضطهاد الذى مارسته الأغلبية البيضاء ضد الأقلية السوداء بداية من اختطاف الرجال السود من إفريقيا واستعبادهم فى أمريكا منذ بداية أمريكا نفسها، وما بقى مترسبا فى الذاكرة الجمعية للسود الأمريكان نتيجة لتلك الممارسات العنصرية البشعة، التى تطل برأسها القبيح من وقت لآخر لدى بعض الأفراد من البيض ولدى رجال البوليس، خصوصا فى ولايات الوسط والجنوب الأمريكى، فقد اندلعت الاحتجاجات والمظاهرات من قبل السود ومناصريهم من البيض من نشطاء حقوق الإنسان فى المدينة، واندلعت معها أعمال العنف والسلب النهب كما يحدث عادة فى الانتفاضات والثورات الشعبية، حيث تصعب السيطرة على المسيرات التى تبدأ سلمية ثم يندس فيها من لهم مصلحة فى التهييج والتخريب، ومنهم فوضويون عدميون، ومنهم فقراء معدمون ليس لديهم ما يخسرونه، ومنهم من عانى من الاضطهاد والتهميش من قبل وربما طوال حياته فيجدها فرصة للثأر، ومنهم المناهضون للنظام الرأسمالى الذين يرون أنه نظام متوحش يهدر الآدمية ويسحق الإنسانية من أجل الإله الدولار، فيجتمع كل هؤلاء للانتفاض فى الشوارع ضد النظام بشكل عام.
ولكن مثل هذه الاحتجاجات والمظاهرات التى يصحبها العنف قد حدثت من قبل فى أمريكا، وبشكل أخطر وأفدح، فقد أحرق السود مدينة نيوارك بنيوجيرسى عن بكرة أبيها عام 1967 نتيجة لممارسات عنصرية، كما أحرقت أحياء كاملة من مدينة لوس أنجلوس فى مارس عام 1991 عندما تسرب فيديو يقوم فيه بضعة رجال بوليس من البيض بضرب رجل أسود يدعى رادنى كنج، وهو طريح الأرض ضربا مبرحا بالأيدى والأرجل بقسوة مفرطة بلا مبرر واضح ولمدة طويلة، فثار السود وأشعلوا النيران فى أحياء لوس أنجلوس، ومع ذلك لم تحدث ثورة عامة فى أمريكا ولم يسقط النظام الأمريكى.
ثورة يناير بدأت بشكل مشابه لما يحدث فى فيرجسون.. لكن ظروف كلٍّ من البلدين مختلفة
بينما نجد أن ثورة يناير المصرية بدأت بشكل مشابه لما يحدث حاليا فى بلدة فيرجسون بولاية ميزورى، فقد كانت البداية دعوة لمسيرة شبابية احتجاجا على مقتل شاب مصرى يدعى خالد سعيد على أيدى اثنين من رجال الأمن فى مدينة الإسكندرية، قاموا بضربه وسحق رأسه فى الحائط فى مدخل عمارة بشكل وحشى حتى مات، وبدلا من أن يعين وزير الداخلية حبيب العادلى أو رئيسه مبارك محققا محايدا قام الطبيب الشرعى التابع للنظام بفبركة تقرير يحول فيه الضحية إلى مجرم، ويدعى أن الضحية مات بسبب تناول كمية كبيرة من مخدرات البانجو، رغم أن وجه الضحية كان مليئا بآثار اللكمات والكدمات كما ظهر فى صورة له تسربت بما يجعل كل شاب وكهل لديه ذرة من ضمير فى مصر يشعر بالغضب الشديد والإهانة والسخط على نظام ظالم فاجر، لا يعاقب الفاسدين المجرمين بين رجال شرطته بل يتستر عليهم ويزيد من فحشه فى حق الضحية باتهامها بقتل نفسها.
وكان أن ازداد سخط الشباب فى مصر كلها على نظام مبارك ورجال شرطته، فدعوا إلى النزول إلى الشوارع فى يوم عيد الشرطة مستخدمين صفحة «كلنا خالد سعيد» فى «فيسبوك»، وفعلا خرج الآلاف فى ذلك اليوم المشهود، ثم تبعهم الملايين من الساخطين على نظام بائس جلب لهم البؤس والفشل والبطالة والعشوائيات السكنية والفتنة الطائفية والفساد السياسى والنهب الاقتصادى حتى سقطت مصر إلى قاع الدول فى كل المؤشرات العالمية. وسرعان ما تحولت مظاهرات الشباب إلى ثورة شعبية هائلة أطاحت بالطاغية وبنظام أمنه الفاسد.
لماذا إذن قامت ثورة شعبية فى مصر ولا تقوم ثورة شعبية فى أمريكا بعد وقوع حادثة مشابهة فى الحالتين وهى مقتل شاب مسالم برىء على يد جهاز شرطة يقوم رجاله بتجاوزات قاتلة بشكل متكرر؟
فى البداية علينا إدراك أن القيام بثورة شعبية شاملة يخرج فيها ملايين من المواطنين فى عدد من المدن فى وقت واحد فى أى دولة ليس أمرا سهلا تقوم به الجموع بلا تفكير على عكس ما قد يبدو، وإلا كانت تحدث ثورات عديدة فى دول كثيرة وفى فترات متقاربة، وهذا أمر لا يحدث. فالثورة الشعبية هى أمر صعب لا تقوم به الشعوب بسهولة أو بعفوية، أو لمجرد أن دعاها إلى ذلك شخص أو جماعة، فالشعوب تدرك بعقلها الجمعى وحاستها التاريخية أن الثورات تصاحبها فوضى وعنف وقتل وتخريب قد يستمر لأشهر أو لسنوات، حتى يحل نظام جديد محل النظام القديم الذى ستسقطه الثورة. ولذلك لا تقدم على الثورة إلا شعوب قد فرغ صبرها تماما ووصلت إلى حضيض العيش ولفترة طويلة دون أمل فى التغيير بأى طريق آخر، فلا تجد فى النهاية مفرا سوى الانفجار، أى الثورة.
وسنجد أن أمريكا لم تعرف فى تاريخها سوى ثورة التحرير من الوجود البريطانى، التى تأسست بعدها الولايات المتحدة فى 1776، ثم وقعت حرب أهلية وهى أمر مختلف عن الثورة، وفى فرنسا وقعت ثورة واحدة هى الثورة الفرنسية الشهيرة التى بدأت بحرق سجن الباستيل وإعدام الملك والملكة وقتل كثير من الإقطاعيين ورجال الدين الذين كانوا يستعبدون الناس، وكان شعار الثورة حرية، إخاء، مساواة، ولم تستتب أحوال فرنسا بعدها إلا بعد سنوات عديدة لم تكن كلها مثالية ولا ديمقراطية ولا سلمية، ولكن النتيجة النهائية هى فرنسا التى نعرفها اليوم باعتبارها منارا للحضارة والمدنية والإنسانية لمواطنيها.
أما فى مصر فقد عرفنا هوجة عرابى، ثم ثورة 19 ضد الاحتلال البريطانى، ثم حركة الجيش فى 52، والتى سميت فى البداية بالحركة المباركة، لأنها لم تكن ثورة شعبية لكنها سرعان ما قامت بتغييرات أساسية فى المجتمع، مما دفع الشعب إلى احتضانها كثورة شعبية تعبر عنه بوطنية وإخلاص، وإن لم تخلُ من الأخطاء الفادحة شأنها شأن كل ثورة تطمح إلى تغيير حقيقى وسريع فى مواجهة قوى مضادة خارجية وداخلية، وصولا إلى ثورة 25 يناير الشعبية الهائلة.
الأغلبية العظمى من المواطنين الأمريكيين لا ترغب فى هدم نظام يحقق لهم معظم احتياجاتهم الضرورية والترفيهية
لم ولن تتحول المظاهرات الضخمة فى أمريكا إلى ثورات، بما فى ذلك مظاهرات الشباب الطاحنة المستمرة فى الستينيات والسبعينيات ضد الحرب فى فيتنام، التى سقط فيها قتلى من الشباب على أيدى البوليس الأمريكى، السبب أن الأغلبية العظمى من المواطنين الأمريكيين يعيشون حياة مرضية بشكل عام، يتمتعون فيها بكثير من عوامل الاستقرار والنهضة والمدنية والرفاهية، فالمواطن العادى خصوصا من الأغلبية البيضاء ومعظم المهاجرين يعمل كثيرا، ولكنه لا يشعر أنه مطحون أو مستعبد أو مهانة كرامته، وباستثناء السود فمعظم المواطنين يشعرون بالمساواة أمام القانون، ويعاملون من قبل أجهزة النظام من مؤسسات وهيئات ومصالح حكومية وشرطة وقضاء معاملة كريمة تحترمهم وتلبى حاجاتهم، كما أن لدى أغلبية المهاجرين الجدد الأمل المعقول فى تحقيق الذات وتحويل الحلم الأمريكى إلى واقع يكون لدى الفرد فيه أسرة وبيت وسيارة ووظيفة يختارها وحياة يحياها بالشكل الذى يريده، وفى كل هذه هو مواطن حر إلى حد كبير، لا يضربه رجل الشرطة على وجهه ولا على قفاه، ولا يستطيع أن يقتحم عليه منزله إلا بإذن قضائى، هو فى النهاية مواطن سعيد بنظام دولته مهما كانت درجة احتجاجه على سلبياته، وعليه فليس لدى هذا المواطن أى دافع للثورة وما تتطلبه من خروج إلى الشارع معرضا نفسه لأخطار تصل إلى حد الموت.
هناك فى أمريكا، وفى خارج أمريكا، من الجماعات والأفراد المتطرفين والفوضويين والعدميين والشيوعيين أعداء الرأسمالية ومن الإرهابيين الجدد والقدامى كثيرون، ربما مئات الآلاف، ممن يتعطشون شوقا لإشعال ثورة شعبية داخل أمريكا، ولكن كل هؤلاء حتى لو اتحدوا جميعا وحتى لو تآمروا وخططوا ليس فى مقدورهم إشعال أى شىء ما دامت الأغلبية العظمى من المواطنين الأمريكيين لا يرغبون فى هدم نظام يحقق لهم معظم احتياجاتهم الضرورية والترفيهية، فالعوامل التى تدفع إلى الثورة ليست متوفرة، وقد كان الفكر الشيوعى يتوقع سقوط الرأسمالية فسقط هو بسبب تحجره العقائدى، وبقيت هى بسب مرونتها ولاستيعابها لأفضل ما فى الفكر الاشتراكى نفسه كفكرة اتحادات العمال والحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعى والكفالة للمعدمين وغيرها من الأفكار اليسارية.
الثورات الشعبية ليست أمرًا سهلاً.. ومن يفعل ذلك هى الشعوب التى وصلت إلى حضيض العيش
فى مصر فى عام 2011 كان الوضع مختلفا تماما، كان المواطن العادى يخشى أن يوقعه حظه العاثر فى ظرف يضطر فيه إلى دخول قسم شرطة، فلم يكن يثق بأنه لن يهان أو تلفق له تهمة، كانت فيديوهات ضرب رجال الشرطة للمواطنين على أقفيتهم داخل الأقسام منتشرة على «يوتيوب»، كما كان المواطن العادى مطحونا بين نظام تعليم فاشل تماما، حتى إن كثيرين كانوا يضطرون إلى اللجوء إلى نظام مواز من الدروس الخصوصية باهظة التكلفة لكى يضمنوا لأولادهم نصيبا من تعليم معقول، كما كانت المستشفيات أقرب إلى سلخانات عامة يدخلها المريض لكى يخرج منها جثة هامدة، أو كما دخلها إذا كان محظوظا، كما اضطر الملايين إلى السكن فى القبور وفى العشوائيات التى اكتظت بها القاهرة وكل مدن مصر، أما الصعيد فقد كان تحول بأكمله إلى منطقة منكوبة يعشش فيها الجهل والفقر والتعصب الدينى البغيض، ولا يجد فيها الشباب عملا فيضطرون إلى ترك قراهم ومدنهم والهجرة إلى القاهرة أو لخارج مصر، فيقضون حياتهم بعيدا عن زوجاتهم وأولادهم، وكان الفساد ينخر فى كل مفاصل الدولة بدءا من رأسها ممثلا فى مبارك نفسه، الذى لم تمنعه كرامته من قبول رشاوى سنوية بالملايين كان يسميها هدايا من رؤساء مجالس إدارات الصحف القومية، الذين كان يقوم هو بتعيينهم، وهذا مظهر واحد من مظاهر الفساد الممنهج الذى تمرغ فيه مبارك، وكان مع الوقت قد كبر فى السن وترهل فى القدرة والرؤية، فاستسلم إلى بلادة قيادية وغيبوبة سياسية متزايدة، تاركا أمور مصر لمن حوله من حاشية ومن رجال أعمال وأفراد العائلة، إلى حد أن خططت العائلة لتوريث مصر كأنها عزبة تمتلكها، فثار الشعب للإطاحة بالفشل والفساد والانحطاط الإدارى والسياسى والاجتماعى.
لو كان المواطن المصرى سعيدا أو حتى مجرد قابلا لحالته التى أوصله إليها نظام مبارك لما فلحت ألف مظاهرة ولا ألف مؤامرة فى إجباره أو إغرائه بالخروج إلى الشوارع بملايين، قدرت بثمانية عشر مليونا، وهى أعداد غير مسبوقة فى تاريخ مصر حتى ذلك اليوم، لتتصدى لشرطة مبارك وتسقطها ثم تسقط نظامها الهش الذى كان بلا سند ولا شعبية ولا شرعية، وهو الذى اعتاد تزوير الانتخابات بفجور يحسد عليه. الكلام إذن عن أن ثورة 25 يناير ليست ثورة هو كلام يفتقد إلى الوعى السياسى والاجتماعى بطبيعة الثورات وعوامل قيامها، أما الكلام أنها ليست ثورة لأن الإخوان قاموا بسرقتها فهو كلام بلا منطق، فهل إذا اختطفت عصابة ابنك من الشارع تقول إنه ليس ابنك لمجرد أنه تم اختطافه؟ فكون أن الثورة اختطفت لا يجعلها تفقد طبيعتها كثورة، فقط تصبح ثورة مختطفة حتى يحررها الشعب الذى صنعها ويستردها مرة أخرى.
ما حدث من نجاح تيار الإسلام السياسى من إخوان وسلفيين فى اكتساح مجلس الشعب ثم انتخاب مرسى كان إفرازا طبيعيا من شعب تركه مبارك ثلاثين عاما فريسة لتيار الدجل الدينى، الذى فشل فى مواجهته سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فترك لهذا التيار الساحة والشارع والنقابات والجامعات والمساجد والزوايا والعشوائيات والفضائيات، أى ترك له مصر كلها واكتفى هو وحاشيته بالحكم بلا سند شعبى، ولا وجود للدولة فى المجتمع، وكان من فضل الثورة أنها أدت فى النهاية إلى كشف مدى خيبة وخواء الفكر الإخوانى ومدى فقرهم الحضارى وتدنى سلوكهم وكفاءتهم فى الحكم، بل حتى فى التصرف كبشر، فكان أن ثار عليهم المصريون بخروج ثلاثين مليونا ضدهم فى 30 يونيو، استكمالا لما قام به نفس الشعب فى 25 يناير، فتحققت بذلك أعظم إنجازات ثورة يناير بكشف وفضح ثم طرد تيار الدجل الدينى من الساحة مرة واحدة ونهائية، وهو ما فشل فيه مبارك على مدى ثلاثين عاما، ولم يكن مجىء قائد بروح ورؤية وقدرات السيسى ممكنا لولا ثورة 25 يناير، فلولاها لكان جمال مبارك هو من يحكم مصر اليوم بنفس أسلوب المافيا العائلية الذى حكم به والده، ولاستمرت مصر فى هبوطها إلى قاع الدول حتى تخرج تماما من التاريخ، وهو مصير بشع لم ينقذها منه سوى خروج الشعب فى ثورة 25 يناير مسقطا نظام مبارك، معلنا رغبته فى نظام جديد، وهو ما تبنيه مصر اليوم.
الثورات لا يمكن أن تندلع بناء على مخططات أو مؤامرات لقوى خارجية أو مؤامرات لأفراد أو جماعات داخلية، وإلا كانت قد قامت ثورة كل يومين فى كل مكان فى العالم فيه متآمرون وعملاء وهم كثر ومن كل لون وغرض، الأمر ليس بهذه البساطة ولا يمكن أن تكون الرؤية لما يحدث بهذه السذاجة، ولا تقوم الثورات بمجرد دعوات على «فيسبوك»، فلو قمت أنت تدعو اليوم مثلا إلى الثورة فى مصر لما خرج معك أكثر من مئة شخص أو ربما ألف بالكثير، لأن أغلبية المصريين قد صار لديهم الأمل فى غد أفضل ويرون أن الحكومة تعمل بجد من أجل ذلك، أى دعوة إلى الثورة هى دعوة بلا تأثير فى حد ذاتها دون رغبة شعبية عارمة فى التغيير واستعداد للتضحية فى سبيله، الثورات تقوم حين يصل اليأس بقلوب الأغلبية العظمى من المواطنين حدا لا يرون عنده أى وسيلة ممكنة للإصلاح والتغيير، لأن الحاكم الطاغية قد سد فى وجوههم كل الطرق الشرعية، فلم يبقَ أمامهم سوى الثورة عليه وعلى نظامه، متحملين فداحة الفوضى والتخبط لفترة انتقالية لا بد منها، ولكن على أمل أن المستقبل بعدها سيكون أفضل كثيرا، وهذا بالضبط هو ما حدث فى مصر المحروسة.
فى أمريكا اليوم مسيرات احتجاج على أوضاع عنصرية لدى بعض أجهزة الشرطة، ولكن هذا لن يدفع إلى ثورة، لأن النظام الأمريكى بشكل عام يعمل بكفاءة لصالح المواطن الأمريكى، وهى حقيقة يجب الاعتراف بها مهما كانت الاعتراضات على السياسة الأمريكية المدمرة فى الشرق الأوسط.
وفى مصر اليوم أعمال إرهاب من قبل الجماعة الإرهابية، ولكن هذا لن يوقف المسيرة ولن يقدر على إشعال ثورة جديدة، فاللحظة الحالية هى لحظة ما بعد الثورة أى وقت العمل الشاق والبناء الجاد، وهو ما تفعله القيادة الحالية، ويبقى أن يعمل الشعب كله بمثل هذه الجدية لتحقيق الأهداف الجميلة لتلك الثورة النبيلة.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.