«لو كان المسيح (عليه السلام) سيُولَد بيننا الآن لوُلد فى واحدة من هذه الخيام، لا فى مبنى هذه الكاتدرائية».. هذه العبارة قالها غاضبا القس جيلز فراسر وهو يغادر يوم الخميس الماضى مبنى كنيسة سانت بول الشهيرة فى قلب العاصمة البريطانية لندن بعد أن قدم استقالته لرئيس كهنة الكاتدرائية احتجاجا على ما سماه «تواطؤ الكنيسة» مع بلدية وشرطة المدينة والسماح لهما بفض اعتصام مئات المحتجين المناهضين للرأسمالية المتوحشة، الذين كانوا قد اضطروا إلى نصب خيام اعتصامهم (نحو 150 خيمة) فى محيط وحول مبانى الكاتدرائية العتيدة قبل ثلاثة أشهر بعدما منعتهم الشرطة -آنذاك- من الاعتصام أمام مبنى بورصة لندن القريب من الكنيسة. والقصة من بدايتها تستحق أن تُروَى لأسباب لا تخفى على فطنة القارئ العزيز الذى يكابد -وإيانا- حالة قذارة خلقية وسياسية متأخرة يختلط فيها النصب الفاحش بالتشهير الفاجر، ذاك المنصبّ كله حاليا على شبابنا النبيل الناشط فى حراسة أهداف الثورة وحمايتها من التآكل والتزوير بواسطة الحلف غير المقدس بين الجنرالات وجماعة الانتهازيين المتسربلين برداء الدين الحنيف (انظر كيف أن بعضهم لم يختشِ ولم يداعبه أى إحساس بالخجل، بينما هو ينذر ويعلن على الملأ نيته الدفع بميليشياته لكى تلعب دور الأمن المركزى فى ميدان التحرير يوم 25 يناير المقبل)! وأعود إلى الحكاية اللندنية التى بدأت فى الخريف الماضى حينما انطلقت من الولاياتالمتحدةالأمريكية حركة احتجاجية عارمة قوامها مئات آلاف الناشطين الغاضبين من السياسات الرأسمالية الرعناء فى طورها المتوحش الحالى (أدت إلى مراكمة ثروات خرافية فى كروش قطعان قليلة العدد من الرأسماليين الأفاقين وتوابعهم، مقابل تعميم البؤس والتعاسة على الأغلبية الساحقة من البشر) واستلهمت هذه الحركة «تكتيكات» وشعارات ثورات ربيع العرب، خصوصا الثورة المصرية، ومن ثم انخرطوا فى فاعليات احتجاجية صاخبة وأطلقوا الصيحة التى صارت شعارا وعنوانا للحركة «احتلوا وول ستريت»، أى حى المال والأعمال الأشهر فى نيويورك.. وبالفعل تمركز الآلاف منهم فى ميدان «زوكوتى» فى قلب الحى بعدما سموه «ميدان التحرير». عبرت الصيحة الغاضبة المحيط بسرعة وتلقفها مئات آلاف -ربما ملايين- آخرون فى بلدان أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفى بريطانيا فقد تحول شعار «احتلوا وول ستريت» إلى «احتلوا بورصة لندن» ثم «احتلوا لندن» كلها، وتحت هذا الشعار انطلقت يوم 15 أكتوبر مسيرات وتظاهرات عارمة نجح بعضها فى الوصول إلى مبنى البورصة، لكن البوليس كان قد ضرب حصارا صارما حوله ومنع المحتجين من الاعتصام أمامه، ما اضطرهم إلى اللجوء إلى محيط كاتدرائية «سانت بول» التى تعد واحدا من أبرز المعالم السياحية فى المدينة (شهدت مراسم حفل الزواج الأسطورى الذى جمع مطلع ثمانينيات القرن الماضى ولى العهد الأمير تشارلز والأميرة الراحلة ديانا). نصب المحتجون خيام اعتصامهم فى الشوارع الملاصقة لمبنى الكنيسة التى أعلن مسؤولوها فى البداية أنهم لا يستطيعون رد أناس مسالمين لاذوا بها للتعبير عن رأيهم، ولفترة بدا أن هذا الموقف من قساوسة الكاتدرائية يحرج الشرطة ويمنعها من التدخل لفض الاعتصام، تنفيذا لرغبة مجلس بلدية لندن الذى اعتبر وجود انتشار المخيم الاحتجاجى فى هذه المنطقة يسبب إرباكا شديدا وتعطيلا لحركة السير العمومية، وبمرور الزمن راح بعض الأصوات يتسرب من الكنيسة معلنا تحفظه وتبرمه من الاعتصام، متعللا بأنه يضايق «المؤمنين والزوار» ويمنعهم من دخول المبنى، لكن المعتصمين ردوا بإعادة نشر خيامهم، بحيث لا تعوق حركة الدخول والخروج، وقال أحد قيادات الاعتصام «لا حجة لمن يتذرع بأننا نعطل العمل فى الكاتدرائية كأنه يعطى الضوء الأخضر للبوليس للتدخل بالقوة، الحقيقة أن اعتصامنا ضاعف من أهمية هذا المكان وصنع إغراء جديدا لزيارته». تمسكت بلدية لندن بموقفها الداعى إلى إنهاء الاعتصام فى هذه «المنطقة الحساسة» من المدينة، بيد أنها اضطرت إلى اللجوء إلى المحكمة، طالبة الحكم بإجلاء المعتصمين من محيط الكاتدرائية (لاحظ) ورغم أن مسؤولى الكنيسة لم يتدخلوا فى القضية فإن نحو 20 من كبار القساوسة ورجال الدين أغضبهم ما اعتبروه «موافقة ضمنية» من جانب الكنيسة على هذا الإجراء، ووقعوا على بيان تضامن مع المعتصمين أعلنوه على الرأى العام وطالبوا فيه زملاءهم فى «سانت بول» بموقف «أكثر صدقا وحزما»، دفاعا عن حرية الرأى والتعبير! وأخيرا صدر حكم المحكمة يوم الأربعاء الماضى مؤيدا طلب بلدية لندن بتفكيك مخيم الاعتصام فى الشوارع المحيطة بمبنى الكاتدرائية، ومن ثم سارع مدير البوليس بإرسال إخطار رسمى إلى المعتصمين بالحكم (لاحظ أيضا) يتضمن إمهالهم حتى مساء الخميس لتنفيذ هذا الأمر القضائى، الذى أكد المعتصمون أنهم سيستأنفونه أمام المحكمة العليا.. عقبال عندنا.