بعد حديثنا فى المرة السابقة عن التكفير، و«حدّ الردة» الذى تحدَّثنا عنه خلال المرة السابقة. كثيرا ما نتحدَّث عن محاكم التفتيش التى كانت تحدث خلال العصور الوسطى بسبب تسلط الكنيسة على الشعب، وممارساتها المفرطة فى التشدد، والتى وصلت إلى التعذيب والقتل للمخالفين لرأى الكنيسة، فهل هذا لم يحدث فى تاريخ المسلمين، ربما لم يحدث بالصورة التى حدثت فى العصور الوسطى المسيحية، لكنها حدثت بصورة من الصور، وعلى سبيل المثال لا الحصر: 1- عبد الله بن المقفع (106 ه إلى 142 ه) وكان أديبا ومتقنا لعدة لغات منها العربية، واستطاع ترجمة عديد من الأعمال الأدبية إلى العربية، ومنها «كليلة ودمنة»، وكان من أصول فارسية وكذلك سعيد بن جبير، وكان يتعرض فى أدبه للسلطة السياسية، قتله سفيان بن معاوية بإيعاز من الخليفة المنصور، وكان يقطع لحمه جزلا ويشويه أمامه على النار، ويجبره على أكله حتى مات. 2- عبد الحميد الكاتب كان كاتبا ومترجما وأديبا، وطوَّر أدب الرسائل، وكانت له كتب كثيرة فى أدب الرسالة، وتدرَّج فى المناصب فى الدولة الأموية حتى وصل إلى الكاتب الأول لمروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، وقتله العباسيون، فقد كانوا يقتلون بالشبهة كل مَن له ولاء للدولة الأموية، بما فيهم الأدباء والمفكّرون، وقد قتلوه بوضع طست محمى على رأسه، بمعنى أنه ليس قتلا عاديا، لكن تشفّى، وتعذيب مصاحب للقتل (هل هذا هو الإسلام الدين، أم الاستبداد السياسى باسم الدين؟!). 3- الحلاج (244 ه - 309 ه) من أعلام التصوف السنى، وكان له باع فى ما يسمى فى علوم الصوفية بعلم الإشراق، وكان له تلامذة ومريدون فى الهند وخراسان وبغداد والبصرة، وكان له مدرسة روحية خاصة، وكان له رؤية فى التصوف أنه جهاد ضد الظلم والطغيان، وكان هذا هو السبب الحقيقى لغضب القيادة السياسية عليه، بجعله التصوف بابا للتمرد على الظلم والاستبداد، وإن كان فقهاء السنة قد اتهموه بالزندقة والكفر، وقد قتل على يد الوزير حامد بن العباس وعلقه على باب خراسان المطلّ على دجلة، بعد سجنه عدة سنوات، وقد كان هذا بأمر من الخليفة المقتدر، بإيعاز من الفقيه السنى محمد بن داوود قاضى بغداد. 4- الجعد بن درهم من أوائل مَن قالوا ب«خلق القرآن» 105 ه، وكان من فقهاء وفلاسفة المعتزلة، ومن تلاميذه الجهم بن صفوان مؤسس الجهمية، صعد فى يوم عيد الأضحى والى الكوفة فى عهد هشام بن عبد الملك، وخطب العيد، وأمر الناس بالانصراف للأضحية، وقال أمَّا أنا فسأضحّى بالجعد بن درهم، وذبحه فى أصل المنبر، وقد لاقى قتله استحسان العامة وعلماء السنة، ومنهم الحسن البصرى. 5- غيلان بن مسلم الدمشقى كان قبطيا مصريا، أسلم أبوه وكان من موالى عثمان بن عفان، وقد اشتهر بالصلاح والتقوى، ومن تلاميذه الحسن البصرى، عهد إليه عمر بن عبد العزيز بردّ مظالم بنى أمية، لتقواه وصلاحه، فكان يصادر بعض أموالهم التى أخذوها بغير حق، وكان ينادى فى الأسواق تعالوا إلى أموال الظلمة، تعالوا إلى أموال الخونة، وصلت كلماته إلى مسامع هشام بن عبد الملك، فتوعده وكان مذهبه الحرية الإنسانية، ضد الجبرية التى كان يبرر بها خلفاء بنى أمية الظلم والاستبداد باسم الإرادة الإلهية والقضاء والقدر، وقد حكم عمر فترة وجيزة لم تصل للعامين، وفى الأغلب الأعم أنه مات بالسم، من بنى أمية أنفسهم، للإضرار بمصالحهم ومكتسباتهم، وكان من آرائه أنه لم يكن من الضرورة القرشية فى الخلافة، وكانت هذه أحد الأحاديث، التى يستمد منها الأمويون أحقيتهم بالحكم، وفى خلافة هشام بن عبد الملك أمره بمد يديه فقطعهم بالسيف، ثم أمره بمدّ رجليه فقطعهم بالسيف، وتركه أمام بيته ليكون عبرة للناس، وعندما مرّ أحدهم عليه وسأله ساخرا: أليس هذا هو قضاء الله وقدره؟ فردّ عليه بل الظلم والاستبداد، فأتى به هشام بن عبد الملك وصلبه على أحد أبواب دمشق. 6- أبو الفتوح يحيى السهروردى (632 ه) صاحب كتاب «حكمة الإشراق»، وهى مدرسة فلسفية صوفية، فهو فيلسوف إشراقى شافعى المذهب، قُتل بأمر صلاح الدين الأيوبى، لأنه تم الإيعاز له بأنه يفتن ابنه بالكفر. هذا بالإضافة إلى سعيد بن جبير الذى قتله الحجاج، وابن رشد لم يقتل، لكن حرقت كتبه واتهم بالزندقة، بالإضافة إلى الفقهاء الأربعة فقد نالوا قسطا من الاضطهاد متباينا، فحيث جلد مالك عاريا وخلع كتفه، بسبب فتواه فى بطلان بيعة المكره، وسجن أبو حنيفة وعذّب لرفضه القضاء، وسجن ابن حنبل وجلد فى معركة «خلق القرآن»، وهرب الشافعى من حاضرة السلطان بعد الوشاية بينه وبين الخليفة وبلوغه الأمر، لم نتحدث هنا عن ضحايا السياسة، فهم كثر، لكنها طبيعة المعارك السياسية، كعبد الله بن الزبير والحسين والحسن وكثيرين من آل البيت الذين عارضوا النظام، وكذلك إبراهيم الإمام الأب الروحى للثورة العباسية، وما فعله العباسيون بالأمويين كان دمويا وشاملا وعنيفا، لكن حديثى هنا عن جزء من المعارك الفكرية وضحايا الرأى كما يقولون أو شهداء الكلمة.