في وقت متأخر من مساء الأربعاء 13 أغسطس الحالي، ترددت أنباء عن توجه قوات أمريكية إلى جبل سنجار شمال العراق لإنقاذ مواطنين عراقيين محاصرين هناك. وقبل ورود تلك الأنباء تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية أن البيت الأبيض لا يستبعد مشاركة قوات برية أمريكية في عمليات عسكرية لإنقاذ المواطنين العراقيين المحاصرين من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام «داعش» في جبل سنجار بشمال البلاد. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» الأربعاء 13 أغسطس عن نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي بن رودس قوله إنه إذا وجد الخبراء الأمريكيون الموجودون في العراق أن من الضروري إشراك قوات برية أمريكية لإنقاذ الأكراد الإيزيديين المحاصرين في جبل سنجار شمال العراق فالإدارة الأمريكية ستدرس هذا الأمر، وأشار رودس إلى أنه في حال إرسال العسكريين الامريكيين إلى العراق فسيكون من حقهم استخدام القوة ردا على أي اعتداء عليهم. المثير للتساؤلات أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان قد استبعد بشكل قاطع عودة القوات الأمريكية إلى العراق للمشاركة في عمليات قتالية، بما في ذلك العمليات ضد مسلحي «داعش»، غير أن الأهم هو وجود معلومات تفيد بوجود قوات خاصة وعناصر استخبارات أمريكية وفرنسية على الأراضي العراقية حتى قبل أن تبدأ المقاتلات الأمريكية بقصف مواقع التنظيم خلال الأسبوع الثاني من أغسطس الجاري. وبذلك تعود الولاياتالمتحدة إلى العراق عن طريق الحفاظ على أرواح الأقليات وحماية المواطنين العراقيين من مخاطر إحدى المنظمات الإرهابية، غير أن المشهد «السياسي – الأمني» يشير إلى أن الولاياتالمتحدة تحديدا تركت تنظيم «داعش» المسلح جيدًا، والغني بالأموال والعناصر الإرهابية المدربة، تركته لكي يفتح باب العودة مرة أخرى، والعودة هذه المرة تأتي في ظل احتكاكات حقيقية بين الولاياتالمتحدة وروسيا، وإمكانية تطور الأمور في البحرين الأسود والمتوسط. ومت المنطقي أن تكون القوات الأمريكية في العراق بالقرب من سورية وإيران، وتركيا المطلة مباشرة على البحر الأسود، ولا يمكن أن نتجاهل التصريحات التي أدلى بها قادة حلف الناتو حول أن الحلف لن يترك تركيا في حال تعرضها لتهديدات من جانب «داعش» في العراق. هكذا يذكرنا سيناريو العراق بسيناريو أفغانستان التي شكلت موقعا استراتيجيا للولايات المتحدة، سواء أثناء وجود القوات السوفيتية طوال سنوات الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان، وحتى خروجها من هناك قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه، أو بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية ونشوب حرب الشيشان في شمال القوقاز. وكان اختراع طالبان ودعمها وتزويدها بالسلاح والمستشارين الأمريكيين حلقة أولى في مسلسل اختراع المنظمات الإرهابية. إذ تم استحداث القاعدة التي نفذت جزء كبيرا من السيناريوهات والأهداف حتى أحداث 11 سبتمبر 2001، وتزامن ذلك مع تفاقم الأزمة العراقية. وفي ظل السيناريوهات الجديدة والمشهدين الإقليمي والدولي المعقدين، يصبح العراق مواقعا هاما واستراتيجيا لتواجد قوات أمريكية أو قوات أمريكية – أوروأطلسية بالقرب من دول بعينها. وقبل الاسترسال في مستجدات تحركات القوات الأمريكية نحو العراق، يمكن أن نسترجع ما قاله رئيس معهد التقديرات الاستراتيجية بموسكو ألكسندر كونوفالوف في 1 فبراير عام 2005، مشيرا إلى أن "هناك أملا على المستوى النظري بأن المجلس الوطني الذي سينتخب من قبل العراقيين أنفسهم سيحظى بثقة أكبر من القيادة المؤقتة التي نصبتها سلطات الاحتلال الأمريكية، ومن الممكن أن يسير الوضع تدريجيا نحو الاستقرار". وأعرب الخبير الروسي آنذاك عن سخريته من الوضع المحيط بالانتخابات العراقية عام 2005، مشيرا إلى "أنه بهذا الشكل سيتمكن الأمريكيون من العودة إلى وطنهم بسلام معتقدين أنهم جلبوا سعادة الديمقراطية لدولة أخرى من دول العالم". غير أنه أكد من جهة أخرى بأن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما، إذ إن لا أحد يؤمن بمثل "هذه النهاية السعيدة" بمن فيهم أكثر الأمريكيين تفاؤلا. ووضع كونوفالوف في عام 2005 ثلاثة سيناريوهات لتطور الأحداث في العراق عقب إجراء الانتخابات، حيث رأى أن الشيعة بطبيعة الحال سيفوزون فيها لأنهم يشكلون الأغلبية. وتضم الشيعة أيضا جماعات إسلامية راديكالية تستند إلى دعم إيران. وبمساعدة الديمقراطية سيتشكل في العراق نظام راديكالي- ثيوقراطي معاد للولايات المتحدة وجميع الدول الديمقراطية. وبالتالي يمكن أن يحصل العالم على نسخة عراقية من نظام طالبان، ولكن في هذه المرة في بلاد غنية بالنفط والثروات الأخرى، وتقع في منطقة استراتيجية مهمة من العالم، وهو ما يمكن بدوره أن يقود إلى محن وكوارث أخرى. أما السيناريو الثاني فمن الممكن أن يرفض العراقيون الاعتراف بنتائج الانتخابات ليتحول الصراع على السلطة إلى مواجهات مسلحة تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية يشارك فيها الشيعة والسنة والأكراد، ويتدخل فيها طرفان خارجيان هما تركياوإيران. إذ إن تركيا تتعامل بحساسية شديدة مع كل ما يجري في مناطق كردستان العراق. أما إيران فتدعم الشيعة تقليديا. وفي هذه الحالة يمكن أن تؤدي هذه الأحداث إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها. ويدور السيناريو الثالث حول قيام الولاياتالمتحدة بإجراء الانتخابات، وإعلانها عن إنجاز تاريخي بغض النظر عما ستؤول إليه الأحداث وسيخطط الأمريكيون للخروج من العراق معتقدين أنهم وهبوا الديمقراطية لبلد آخر. وفي هذه الحالة المفزعة سيتحول هذا البلد إلى فريسة سهلة للإرهاب الدولي، وستصبح بغداد عاصمة للقوى الإرهابية مما سيؤثر سلبيا على أوروبا، وروسيا، والولاياتالمتحدة. وفي ضوء هذه السيناريوهات المتشائمة، أعرب كونوفالوف عن رأيه بأن واشنطن وضعت بسياستها غير المضبوطة والتي تتميز بالثقة المفرطة العالم كله أمام مهمة البحث عن مخرج من المأزق. وتساءل حول الدور الذي يجب أن تلعبه روسيا والدول الأوروبية في هذا المجال، مجيبا في الوقت نفسه بأن رد الفعل الأول والطبيعي لروسيا سيكون الوقوف جانبا، والتذكير بأنه حذرت في السابق وتجاهل الأمريكيون التحذيرات، وقرروا التصرف بمفردهم، وبالتالي عليهم أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم.Top of Form هكذا تحدث أحد الخبراء الروس منذ أكثر من 9 سنوات. والآن، ومع فشل السيناريو الأمريكي لتمكين القوى اليمينية الدينية المتطرفة من السلطة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعود واشنطن إلى اعتماد السيناريوهات الأكثر تطرفا، متخذة العراق رأس حربة في تصفية حسابات إقليمية ودولية. من الواضح أن الفشل الأمريكي شبه الكامل في الشرق الأوسط وسقوط سيناريو أخونة المنطقة. إضافة إلى تورط واشنطن في الأزمة الأوكرانية ودفع أوروبا إلى حالة من العسكرة السياسية والاقتصادية ومواصلة إشعال منطقة البحر الأسود ودفع حلف الناتو نحو الحدود الروسية.. كل ذلك يجعل المشهدين الإقليمي والدولي في حالة اشتعال دائم. وبالتالي، لا تتورع الولاياتالمتحدة عن اعتماد سيناريوهات غير إنسانية لمواصلة إشعال المنطقة العربية طائفيا وعرقيا، متصورة أن هناك مطلبا شعبيا ورسميا لتدخلها في العراق من أجل تخليص المنطقة من الإرهاب. ولا شك أن التساؤلات أصبحت كثيرة حول ظهور داعش وتسليحها ومدها بالمعلومات والأموال. فعلى الرغم من وجود الأقمار الصناعية الأمريكية القادرة على التجسس حتى على رؤساء العالم وزعمائه، وعناصر الاستخبارات الأمريكية الناشطة في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنها لم تتمكن من متابعة أو رصد "داعش" وتطورها. وبالتالي، ظهرت المنظمة الإرهابية وكأن الأرض انشقت وأخرجتها. هكذا تصبح "داعش" المبرر الأكبر لعودة القوات الأمريكية، أو للتدخل الأمريكي بأشكال مختلفة ليس فقط في العراق، بل في المنطقة بالكامل على خلفية صراع أمريكي – روسي ليس بعيد عن المنطقة أصلا.