كتبت: مي عزام بدأت علاقتى بأشعار محمود درويش، عندما أهدتنى صديقة قبل سنوات طويلة ديوانه «ورد أقل»، وكنت متيمة بالمقطع الذى يقول فيه: «إذا كان لى أن أعيد البداية/ أَختار ما اختَرت» كما توقفت كثيرا أمام قصيدته «يحبوننى ميتا»، وفهمت أنها هاجس من العتاب للأشقاء العرب، يبدو الآن واضحا فى ضمير الفلسطينى المتسائل عن موقف العرب من العدوان على غزة، فهو يقول: «يحبونَنِى ميتا لِيَقُولُوا: لَقَد كَان مِنا، وكَان لَنَا» وهى تحمل نفس الوجع الموجود فى قصيدة «أنا يوسف يا أبى»، خصوصا عندما يقول «إخوتى لا يحبُّوننى/ لا يريدوننى بينهم يا أَبى/ يَعتدُون علىَّ ويرمُوننى بالحصى والكلامِ/ يرِيدوننى أَن أَموت لكى يمدحُونى/ وهم أَوصدُوا باب بيتك دونى» حتى يصل إلى ذروة المأساة قائلا: «........ والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتى/ أبتى! هل جنَيْتُ على أَحد عندما قُلْتُ إنِّى: رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَّمس والقمرَ، رأيتُهُم لى ساجدين؟» هكذا عشت عالم محمود درويش، ولم أخرج منه حتى هذه اللحظة، وكثيرا ما أتحدث بأشعاره فى لغتى اليومية، وأعبر عن حالى بأبيات أبلغ من أى كلام، وهو ما أسعدنى عندما شاطرنى فيه كثيرون بعد ذلك، مع طفرة استخدام «الفيسبوك» ومواقع التواصل الاجتماعى، ودمج الشباب بين الشعر والجرافيك، فرأيت الكلمات التى أحفظها وأحبها فى تشكيلات وصور بديعة مثل: «وبى أمل يأتى ويذهب/ لكن لن أودّعه» «سأصير يوما ما أريد» «أنا من رأى» وهذا التعبير الأخير الرائع من قصيدة «من فضة الموت الذى لا موت فيه»، والتى منحتنى القوة والأمل فى كثير من الأوقات الصعبة، فهو يقول: «سأُمزِّق الصحراء فىّ وحول أجوبتى. سأسكنُ صرختى أنا من رأى أنا من رأى فى ساعةِ الميلادِ صحراءً فأمسك حفنة العشب الأخيرهْ سأكون ما وسعَتْ يداىَ من الأفق سأُعيدُ ترتيبَ الدروب على خُطاى سأكون ما كانتْ رؤاى. أنا من رأى».. ما هذا التكثيف الرائع، حيث يمكنك أن تستخدم هذا التعبير وحده كقصيدة كاملة «أنا من رأى»، ولذلك انتصر درويش على علة موت الشعر والشعراء، وحقق انتشارا كبيرا بين الشباب على صفحات التواصل الاجتماعى، فأشعاره تتميز بإمكانية أن تقتطع منها مقتطفات قصيرة دون أن تقلل من جمالها، فلقد استطاع بعبقريته الشعرية أن يعبر بكلمات قليلة الحروف عن معان ومشاعر شديدة الثراء والتنوع يتم تداولها لتصبح نصوصا فى حد ذاتها وبعيدا عن النص الأصلى مثل: أنت منذ الآن غيرك فكر بغيرك، أحن إلى خبز أمى، سجل أنا عربى، على هذه الأرض ما يستحق الحياة، بعضى مُشتاق لبعضى، لماذا تركت الحصان وحيدا، أنا العاشق سيئ الحظ.. إلخ، كلمات تتجدد بالزمن ولا تشيخ مع الوقت، على عكس الأشعار العاطفية السطحية، أو البلاغة الفارغة التى يسخر الشباب منها الآن، لسذاجة معانيها بالنسبة إلى عصرهم. رغم أن ما يغلب على شعر درويش الإحساس بفقدان الوطن وعمق مأساة الإنسان الفلسطينى فإنه استطاع أن يحول ذلك إلى وجع إنسانى عام، كما نجح فى التأثير فى الثقافة العربية، فالقيمة الحقيقية للشاعر هى القيمة التى يحققها فى ثقافة أمته وقدرته على تجديدها والإضافة إليها، وأدخل صورا شعرية لم تخطر على بال شاعر قبله، حتى إننا لا نعرف فرقا بين التغول فى الحبيب وعشق الوطن، ففى قصيدته «أحبك أكثر» يقول: «تكبّر.. تكبرّ!/ مهما يكن من جفاك/ ستبقى بعينى ولحمى، ملاك/ وتبقى كما شاء لى حبنا أن أراك/ نسيمك عنبر/ وأرضك سكر/ وإنى أحبك أكثر/ يداك خمائل/ لكننى/ لا أغنى ككل البلابل/ فإن السلاسل/ تعلمنى أن أقاتل/ أقاتل/ لأنى أحبك أكثر/ غنائى خناجر ورد/ وصمتى طفولة رعد/ وأنت الثرى والسماء/ وقلبك أخضر/ وجزر الهوى، فيك، مدّ/ فكيف، إذن، لا أحبك أكثر». درويش كان يضىء المناطق المعتمة ويسير بك فى دروب جديدة، ويأخذ القارئ إلى اللا متوقع الذى يضمن للشاعر والمتلقى الاستمتاع بلعبة الشعر. إنه شاعر قضية، شاعر مقاومة، لم يكن شاعرا رومانسيا عاطفيا بالمعنى الشائع، لكن لعل أكثر القلوب احتياجا إلى الحب هى قلوب هؤلاء المعرضين للاضطهاد، الحب بالنسبة إلى هذه الحياة الصعبة القاسية هو مصدر الأمل الوحيد، وشعاع الشمس الذى يملأ الحياة بالحرارة والدفء، محمود درويش كان يحس بالحنين العميق إلى الحب ولا ييأس من تكرار التجربة، وعن ذلك يقول درويش: «أحب أن أقع فى الحب، عواطفى متقلّبة، حين ينتهى الحب، أدرك أنّه لم يكن حبا، الحب لا بد من أن يعاش، لا أن يُتذكر، ولذلك أرغب فى أن أعيشه دوما». وهو ما يتجلى فى أروع تعبير من خلال قصيدته «أجمل حب» التى تبدأ بالغربة، وتكتمل بمسيرة لا تعرف الفراق: كما ينبت العشب بين مفاصل صخرةْ وُجدنا غريبين يوما وكانت سماء الربيع تؤلف نجما.. ونجما وكنت أؤلف فقرة حب.. لعينيكِ.. غنيتها! حبيبان نحن، إلى أن ينام القمر ونعلم أن العناق، وأن القبل طعام ليالى الغزل وأن الصباح ينادى خطاى لكى تستمر على الدرب يوما جديدا! صديقان نحن، فسيرى بقربىَ كفًّا بكف معًا، نصنع الخبز والأغنيات لماذا نسائل هذا الطريق.. لأى مصير يسير بنا؟ ومن أين لملم أقدامنا؟ فحسبى، وحسبك أنا نسير.. معًا، للأبد كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين يوما ونبقى رفيقين دوما. عن الحب فى حياة محمود درويش سنحكى ونحكى فإلى لقاء.