ونحن نتحدث مع الأستاذ عن رواية «قلب الليل»، قال: إنه التقى ذات يوم رجلا رث الهيئة، يبدو كمتسول، لكنه يتحدث حديث مفكر صاحب مذهب فلسفى، ويملك نظرية متكاملة فى إصلاح الكون! «جعفر الراوى» يا له من اسم يعبر عن تاريخه، فهو كما قال: «إننى أتمرغ فى التراب ولكنى هابط فى الأصل من السماء». ثم يتحدث عن علاقته بالجن والعفاريت، ويتكلم عن العقل باعتباره الحاكم! إذ إن «العقل يعتبر مخلوقا حديثا نسبيا إذا قيس بالغرائز والعواطف». وهنا يعد البطل ممثلا لتاريخ تطور الجنس البشرى، من الإيمان بالأساطير والخرافات، إلى الإيمان بالمنطق والعقل، هذا العقل الذى أوصل جعفر إلى القتل، وأوصل البشرية إلى الحروب والمجاعات! ثم يشير أستاذنا إلى فكرة صوفية رائعة عن «الإنسان الإلهى» الذى يعايش الله فى كل حين، ولو كان قاطع طريق، و«الإنسان الدنيوى» الذى يعايش الدنيا، ولو كان من رجال الدين. ويقول: «إرادتك النقية، إيمانك وحبك للدين، بعد ذلك ستجد أن كل كتاب هو كتاب دين، وكل مكان معبد سواء فى مصر كان أم فى أوروبا، وسييسر الله لك سبيل الحكمة». ومأساة جعفر الإنسانية وقعت لتسخر من عابد العقل ومقدسه، فهذه الرواية إذا جرى تأملها على مستوى أعمق من مستوى تفاصيل الأحداث الظاهرة، يمكن أن تُرى كرواية فلسفية فى مفهوم الألوهية. وقد قلت للأستاذ يوما: إن أحد النقاد كتب مقالا عن رواية «حضرة المحترم». وقال إن اللغة الصوفية فى الرواية إنما تعبر عن السخرية من بطل الرواية «عثمان بيومى»! فقال لى الأستاذ: وأنت ماذا ترى؟ قلت إنها رواية صوفية من أول كلمة، وحتى آخر كلماتها المعبرة بدقة عن الواقع، والمشيرة فى الوقت ذاته إلى ما يتجاوز الواقع. فثمة تبجيل وتقديس لمنصب «صاحب السعادة» يشير إلى شىء أهم وأعلى من كل ما فى حياتنا العادية. ولذلك «لقد داس على كل شىء من أجل شىء». وهذا الشىء أكبر من المنصب ذاته، بل أكبر من كل الماديات. إذ يقول «عثمان» لنفسه كلما ضاق بتقشفه: «هكذا عاش الخلفاء الراشدون». ولا يخلو عمل للإنسان من عبادة، لذا مقدس الإنسان فى عذاباته، وبالحزن يتقدس، ويعد نفسه للفرح الإلهى، كما يقول: «لولا إيمانى بأن الدنيا مقدسة بما هى من صنع الله لرضيت بحياة البهائم». وقد كرس نفسه حقا لطريق الله المجيد، ولكنه يغوص فى الآثام! فهذه رواية باطنية تعبر ببراعة عن عذابات إنسان يكدح فى الطريق الروحى، ولعل المجال هنا لا يتسع للحديث عن تفاصيل هذا الطريق الشاق الطويل، طريق الخلاص واليقين، الذى تنيره كلمات الله التامات، ومن ثم لا يصلح له كثير من الناس الذين يسعون وراء الأشياء، فهو طريق سرى، ومضنون به على غير أهله.