العقلاء فى مصر يعرفون، عن يقين، أن مصر لا تملك ترف الانسحاب من إدارة الأزمة المتصاعدة فى غزة بسبب العدوان «الإسرائيلى» الغاشم على القطاع لسبب أساسى، هو وجود إدراك استراتيجى مصرى أصيل يعتبر أن سوريا الكبرى كلها (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) أو ما كان يسمى تاريخيا ب«بر الشام» توأم روحى ل«بر مصر»، وأن هذا الجزء شديد الأهمية من الوطن العربى عمق استراتيجى لمصر، وأن الدفاع عنه دفاع مباشر عن الأمن الوطنى المصرى. لكن هناك من هم على نقيض كامل مع هذا الإدراك فمن يوالون الأمريكيين والإسرائيليين، الذين انساقوا منذ سنوات وراء مخطط عزل مصر عن أمتها العربية ودفعها إلى الانحراف بوعيها الاستراتيجى وأهدافها ومصالحها الوطنية بالتورط فى تحالف استراتيجى مع الأمريكيين والإسرائيليين على حساب التزامات مصر العربية، خصوصا إزاء القضية الفلسطينية التى كانت وستبقى جزءا أصيلا من معادلة الأمن الوطنى المصرى، ومحور ارتكاز الأمن القومى العربى كله، يرون أن إسرائيل لم تعد عدوا لمصر أو مصدرا لتهديدها، وأن الخطر بات ينحصر فقط فى جماعة الإخوان وحلفائهم من الفلسطينيين. هؤلاء وجدوا ضالتهم فى الأشهر الأخيرة عندما تورطت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» فى ممارسات معادية لمصر وللشعب المصرى وللأمن الوطنى المصرى عندما أعطت الأولوية لولاءاتها التنظيمية مع جماعة الإخوان المسلمين على حساب المصالح الوطنية الفلسطينية، وانجرفت فى مخطط إسقاط ثورة 30 يونيو 2013 تحت وهم دعوة «الدفاع عن الشرعية»، فاندفع هؤلاء ليس نحو التنديد بحركة «حماس» لكن الهجوم امتد إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى كله، دون اكتراث بأن هذا الدور الذى يقومون به يصنف بأنه دور عدائى مباشر للأمن الوطنى وللمصالح الوطنية المصرية. هذا الدور وجد ما يدعمه بالأخطاء المتتالية التى ترتكبها حركة «حماس» ضد مصر مع اندلاع العدوان الإجرامى الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة الذى يستهدف القضاء نهائيا على المقاومة وخيار المقاومة فى فلسطين، بدليل ذلك التحول المريب بالأزمة من استهداف الضفة الغربية إلى استهداف قطاع غزة. على الرغم من أن الأزمة تفجرت فى الضفة وليس فى غزة. لم يأتِ التصعيد «الإسرائيلى» فى الضفة الغربية، لكنه انتقل إلى قطاع غزة لأسباب يجب أن نكون نحن فى مصر على وعى بها، أولها الحرص الإسرائيلى على عدم إحراج السلطة الفلسطينية التى يجب الحفاظ عليها كشريك فى التفاوض والحرص أيضا على تفادى اندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية ثالثة يدرك الإسرائيليون أن مقوماتها آخذة فى التبلور والانفجار ضد الاحتلال. وثانيها، القضاء على سلاح المقاومة وإجبار حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى» على التخلى نهائيا عن خيار المقاومة والقبول بمشروع السلام «الإسرائيلى» بكل شروطه، اعتقادا من الإسرائيليين أن الظروف باتت مواتية الآن، فى ظل الاختلال الشديد فى موازين القوى العربية-الإسرائيلية، لتحقيق هدف القضاء على المقاومة وخيار المقاومة وإجبار المقاومة فى قطاع غزة على الانخراط فى خيار السلام الإسرائيلى، أما الهدف الثالث والأهم فهو توريط مصر فى أزمة تفرض عليها التخلى نهائيا عن دعم الصمود الفلسطينى فى قطاع غزة والقبول بالتسوية التى تريدها إسرائيل والتى فشلت فى فرضها على السلطة الفلسطينية خلال جولة المفاوضات الفاشلة الأخيرة، التى رعاها وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى. والآن وبعد التورط الإسرائيلى فى الاجتياح البرى لقطاع غزة بعد قصف جوى وبحرى للقطاع استمر أكثر من عشرة أيام، وبعد رفض فصائل المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة للمبادرة المصرية باعتبارها مبادرة «ركوع وخضوع»، حسب وصف بيان صدر عن كتائب القسام الجناح العسكرى لحركة «حماس» لم يعد أمام مصر غير خيارين أساسيين: الخيار الأول، أن تنساق مصر وراء ضغوط سياسية وإعلامية مصرية تريد منها التخلى عن دورها فى القضية الفلسطينية وتفكيك روابطها مع هذه القضية والانصراف عن الأزمة المتفجرة حاليا باعتبارها أزمة تخص أعداء مصر: الإخوان وحركة «حماس»، ولا يجب على مصر أن تتدخل لحمايتهم، وأن ترضى بالإقصاء الذى يدبر له الإخوان وحلفاؤهم القطريون والأتراك، فى محاولة منهم للوقيعة بين الشعب المصرى وقيادته، وتصوير القيادة المصرية على أنها حليفة لإسرائيل، وأنها باعت الشعب الفلسطينى وقضيته مقابل الحصول على دعم أمريكى لما يسمونه ب«الانقلاب على الشرعية». الواضح الآن أن الأطراف الثلاثة: الإخوان وقطر وتركيا فى سعيهم إلى إنضاج مبادرة بديلة للمبادرة المصرية يستهدفون النيل من مصر ومكانتها، ويحفزون حركة «حماس» على التشدد وإحراج الموقف المصرى ضمن معادلة صراع إقليمى ضد مصر تديره هذه الأطراف الثلاثة، معولين على دعم موقف أمريكى فاتر للمبادرة المصرية، وتطوير هذا الموقف إلى دعم ما يسمونه بمبادرة أوسع تضم كل الأطراف، حسب ما جاء على لسان جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى نفسه. الخيار الثانى، أن تتعامل مصر مع الأزمة باعتبارها أزمة تمس الأمن الوطنى المصرى، وأن تديرها بوعى ورؤية استراتيجية ضمن تنسيق عربى واسع يضم أطرافا عربية فاعلة وبتواصل مع أطراف إقليمية وبالذات إيران، وأن تطور مصر من مبادرتها باتجاه دعم المطالب المشروعة للفلسطينيين فى القطاع، خصوصا إنهاء الحصار الظالم والتوسع فى التنسيق مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، خصوصا الجهاد الإسلامى والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ووضع حركة حماس مجددا أمام خيارها المستحيل بين الولاء للإخوان والانتصار للمشروع الوطنى الفلسطينى، وأن يكون الخيار الاستراتيجى لمصر هو عدم ترك فلسطين لمن يريدون أن يعبثوا بها، لأن هذا العبث ستكون مصر مستهدفة منه قبل غيرها.