كاتب من جيل الستينيات المصرى فى القصة القصيرة والرواية، هذا الجيل الذى حمل عبء تجديد الكتابة وإحداث اختراق فنى كبير فى الجدار العازل الضخم الذى أقامته الأجيال التى سبقته بينه وبين الظهور، هذا الجدار لم ينبن عمدًا، بل الطبيعة التى تنتاب البشر عموما هى غريزة البقاء الدائم، وتشمل هذه الغريزة بالطبع الملوك والرؤساء، كما تشمل الكتّاب والفلاسفة والأدباء، والذى يراقب المعارك الضارية التى تدور دائما بين الأدباء، يندهش من كمّ التسفيه والتسخيف الذى يوجهه كل فريق إلى الآخر، وعبد الحكيم هو أحد الأدباء الذين كانوا فى قلب المعركة، ليس بالتطاول على الآخرين، ولكن بإبداعه الفنى الذى نال احترام وتقدير الجميع، رغم السنوات التى قضاها عندما كان شابا فى المعتقل، وكتب روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة» فى هذا المعتقل عام 1963، و1964، ولم ينشرها إلا فى مطلع عقد السبعينيات، وكانت الرواية مفاجأة بالفعل للحياة الأدبية، وكانت تجمع بين المكونات المادية للقرية المصرية، وتجلياتها الفنية والثقافية والدينية، هذه التجليات التى ظلت تطارد عبد الحكيم فى معظم ما كتب، وكانت رواية «المهدى» و«طرف من خبر الآخرة» أكثر النماذج تعبيرًا عن هواجس قاسم، ومع هاتين الروايتين القصيرتين، كانت هناك بضع قصص قصيرة تشترك فى إبراز وتحليل وتأمل هذه التجليات، ومن أبرز هذه القصص قصة «طبلة السحور»، المنشورة فى مجلة «القاهرة» فى ديسمبر 1986، ثم أعيد نشرها فى ما بعد فى كتاب «الهجرة إلى غير المألوف»، ويبدأ حكيم القصة ب«والرجل يمضى بها فى ليل الحارات كتلة من الظل فى شفيف العتامة، والقرية كلها قلوب مشدودة الجلد، مسلمة للأصداء العميقة الغليظة، الإيقاع مبهم قادم من أعماق الوقت ومنته فيه، ديمومة مدورة باهظة نابضة، بينا رق الفؤاد المستلهب نهب للصوت والتذكر»، هذا التقديم لم يكن إلا وقوفا أمام هذه الآلة الغريبة العجيبة والمدهشة، والتى استحضر من خلالها سلسلة ذكريات قديمة، بعد أن انفكت غربته الطويلة وعاد إلى بلاده، ويلتقى صديقه «الشابورى» الذى كان رفيقه فى الطفولة، وكان يسير مع والده حاملا هذه الطبلة العجيبة، ولكن عملية الاسترجاع التى تقتحم وعى الراوى، الذى هو عبد الحكيم نفسه، والذى تنطبق عليه وقائع القصة، لا تمر دون مقارنة الماضى بالحاضر، هذا الماضى الذى كانت الليالى الرمضانية فيه تجذب جمهورا كبيرا، وكان سحرها يمضى بقوة فى الأرواح، «فى الزمن القديم كانت السهرة الرمضانية تبدأ فى دوارنا بعد صلاة العشاء والتراويح، والحضرة والذكر فى الجامع الكبير، إذ يجلس أبى فى الشرفة يسامر ضيوفه، ويرتل الشيخ أحمد، فقى الكتّاب آيات القرآن من على دكة فى آخر الردهة، ويصنع العم حسن القهوة فى ركنه قريبا من الفقى، الآن أسأل نفسى عن السحر فى تلك الأماسى القديمة، أكان يفيض علىّ من فرحة الأب بضيوفه فى الشرفة؟ أم من مجلس المقرئ على دكته وإلى جانبه من يفرد المصحف الكبير على حجره ويتتبع السطور بعينيه، أو من ينصت ويستعبر؟ أم كان السحر يأتى من مجلس صانع القهوة، قدامه يوشى موقد الكيروسين، عليه الإبريق، وهناك من يساعد بغسل الفناجيل أو بجلب الماء أو المسامرة بحديث طيب؟ من أين أتى السحر فى تلك الأماسى القديمة؟»، ويظل الراوى يستعيد الماضى، ولا يستعيده مجردًا دون مقارنته بالحاضر، ودون أن يسأل الشابورى عن سرّ تلك الأيام البعيدة، ولا يستعيده دون أن يتأمل لهفته الكبرى على رؤية هذا المخلوق العجيب الذى يسمى «المسحراتى»، ويعاينه شخصيا، ويرقب هذه الطبلة التى تحمل للناس الإذن بالسحور، وعندما اشتد عليه الإلحاح، وأكد على والدته بإيقاظه ليرى هذا المسحراتى، ولم تفعل، واستيقظ فى الضحى، ووجد نفسه نائما على ظهر الفرن، راح يؤنب والدته بشدة، ويبكى وهو يقول لها: لماذا لم توقظينى يا أماه؟، وكانت الأم تحاول إلهاءه فتقول له: «هذا هو الطعام الذى تناولناه، خذ وكل منه»، فيزداد الطفل احتدادا، ويعلن عن تمرده عن أى أكل، إنه كان يريد رؤية المسحراتى وطبلته الساحرة، وفى اليوم التالى توقظه أمه، ليرى هذا الكائن العجيب، وبعدها تتشبع رغبته، ولكنه يتابع رحلة المسحراتى، ويوضح أن مهنة المسحراتى دوما تنتقل أبًا عن جد، فالشابورى الصغير، كان قد ورث هذه المهنة عن والده الذى رحل وتركه هو ووالدته العمياء، وفى القرية لا يوجد مسحراتى واحد، بل أكثر من ذلك، ولكل مسحراتى أيام يدور فيها منفردا، ثم هناك أيام شرك، بتعبير قاسم، يلفّ فيها الجميع على كل أنحاء القرية، وفى وقفة العيد يتبرع أو يتصدق الناس بها على المسحراتية، والمدهش أن كل بيت فى القرية يكون معروفا بإنتاجه من الكعك والبسكويت، ويكاد الناس يعرفون صاحب هذا الكعك من رائحته، ربما تكون هذه مبالغة، لكنها صفة تقريبية إلى حد كبير، والذين يعرفون الريف سيدركون أن هذه الملاحظات قابلة للتصديق هناك، وبعيدًا عن ذلك، فالراوى الذى يستعيد طفولته وقريته وناسه وتقاليد هؤلاء الناس، يتذكر أنه ذهب إلى بيت الشابورى الصغير «المسحراتى»، وفجأة يرى عن قرب هذه الآلة العجيبة، أى الطبلة التى كانت ساحرة له فى الأيام السابقة، ويكاد يفزع من سكونها وهزالها، إنه يراها فى أوقات بعيدة عن العمل، فيفتر حماسه له، بل إنه يستكثر كل هذه المشاعر التى كان يكنّها لها، وكذلك راح الطفل يتأمل المسحراتى نفسه، ويعاينه شخصيا دون سلاحه الذى يخلق منه هذه الأسطورة الطفولية البديعة، ويظل قاسم يسرد التفاصيل، ويرصد العادات، ويعدد التقاليد التى تضمحل يوما بعد يوم، لكن تظل قسمات وملامح هذه الأيام جزءًا من تكوين الرجل الكهل الذى ذهب شابا إلى الخارج، وعاد يبحث عن هذا الكيان الذى ضيّعته الغربة، وكادت تقضى عليه، وكل هذه القسمات التى يستعيدها عبد الحكيم تنطلق من هذه الطبلة التى كانت وما زالت تعمل حتى الآن.