فى أحد أعداد مجلة «الرسالة»، عام 1937 كتب أحمد حسن الزيات صاحب المجلة ومديرها ورئيس تحريرها مقالا تحت عنوان «أدب الساندويتش»، وكان العنوان غريبا ومثيرا ومستحدثا، وربما يعتبر الحفيد الشرعى لما سمى فى ما بعد «أدب التيك أواى، أو أدب الكلينيكس»، وغير ذلك من مسميات، ولأن العنوان كان غريبا، راح الزيات يبذل مجهودا ذهنيا فى تفسير وتوضيح ماذا يقصده من هذا المصطلح، وقال إنه الأدب الذى تم إعداده على عجل، وفى سرعة تخلّ بتقاليد الأدب وأهدافه وبنيانه، كذلك فالقارئ لا يستطيع أن يستمتع بهذا الأدب، كما يحدث ذلك مع الأدب الرصين، الذى يبذل منتجه ومبدعه مجهودات حقيقية فى إعداده، وعرّج الزيات على ضحالة الجيل الجديد، وفقر قراءاته، لذلك فهم يدافعون عن إنتاجهم الهزيل بما هو أسوأ من الإنتاج نفسه، فيقول أنصار أدب الساندويتش: «إن قواعد اللغة قيود لا توافق العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجارى قراءة السرعة، وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج»، ويسترسل الزيات فى مناقشة الحجة بالحجة، ويعرض لبعض الرسائل التى وردت إليه من البلاد العربية لائمة على ما وصل إليه الأدب والكتابة والإبداع فى أرض الكنانة، لكن الزيات يستثنى قلة قليلة من الكتاب، الذين استطاعوا أن يصلوا إلى الكفاءة، التى تؤهلهم أن يكونوا كتّابا ومبدعين، وفى العدد 207 من مجلة «الرسالة»، الصادر فى 21 يونيو 1937، يسارع الكاتب والأديب الساخر إبراهيم عبد القادر المازنى، بالتعليق على مقال الزيات، ليس مقالا للرد، لكنه مقال فى التعقيب أو التعليق أو التعضيد بمعنى أصح، واعتبر المازنى أنه من هذه القلة القليلة التى يقصدها الزيات، هذه القلة التى عانت واجتهدت لكى تحصل على قدر كبير ومتنوع من الثقافة والفكر، وأشقت نفسها فى القراءة والبحث والتنقيب،حتى أدركت معنى الثقافة والقراءة والكتابة، لذلك فالمازنى أعطى ومنح الثقافة المصرية والعربية قدرا كبيرا من الجدل حول كتاباته العميقة، رغم أنها كانت تبدو خفيفة وساخرة، وتغلب على بعضها الطرافة، خصوصا ما كان يتناول فيه حياته الاجتماعية، لكن المازنى عندما ارتبط برفيقه عباس محمود العقاد فى السنوات الأولى من حياته الفكرية والثقافية والسياسية، وذلك فى مرحلة مخاض ثورة 1919، وشن الاثنان حملة شرسة على أعمدة الشعر والنثر آنذاك مثل أحمد شوقى ومصطفى لطفى المنفلوطى، وكتب المازنى مقالا حاول فيه تحطيم زميلهم الشاعر عبد الرحمن شكرى، لكن المازنى كتب شعرا، لكن هذا الشعر لم يحدث ما أحدثته وقائع المازنى الأخرى الفكرية والأدبية، فكتبه ورواياته مثل «حصاد الهشيم» و«قبض الريح» و«إبراهيم الكاتب» و«ثلاثة رجال وامرأة» و«من النافذة»، وغيرها من كتب أخرى ومقالات، وحسنا فعل المجلس الأعلى للثقافة بإصدار عدة مجلدات، وهى عبارة عن مجموع مقالاته التى كتبها المازنى فى حياته، وكذلك اكتشف الناقد الدكتور مدحت الجيار مخطوطة مهمة جدا للمازنى، وهى كتابه عن رحلته للعراق، وقد صدر الكتاب مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والجدير بالذكر أن هذا الكتاب يتحدث عن وحدة شعب العراق، الذى يتعرض الآن للنسف بكل الأسلحة المحلية والإقليمية والدولية، ومن المهم أن ننوه إلى أن كتاب المازنى عن العراق ليس هو الكتاب الوحيد الذى يكتبه مصرى، بل إن هناك كتابا بديعا آخر كتبه الدكتور زكى مبارك، وهو كتاب «ليلى المريضة بالعراق»، وليت تنتبه مؤسساتنا الثقافية فى ظل هذه العودة الحميدة للمعنى العروبى، وأن تعيد نشر هذا التراث الثقافى العروبى، الذى يوضح كم كانت هذه الشعوب متناغمة ومتقاربة ومتفاهمة، قبل أن تدخل عناصر التفرقة الحديثة وتستفحل. ونعود إلى مقال المازنى الذى أوضح فيه رحلته مع القراءة، وكان لا بد أن يذكر حضوره لدروس الشيخ محمد عبده، والشيخ سيد المرصفى، وانتقاله إلى التعليم العالى، فدخل مدرسة المعلمين العليا، والتقى هناك زميله ومرشده، كما يعترف، وصديقه الأستاذ عبد الرحمن شكرى، ويعترف مرة أخرى بعد أن كاد يحطمه من عشرين عاما، بأنه، أى شكرى، كان شاعرا ناضجا ذا مذهب فى الأدب يدعو إليه، ويزيدنا اعترافا: «وكنت أنا مبتدئا، فصرفنى عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة، ومن إلى هؤلاء، ووجهنى إلى الأدب الجاهلى والأموى والعباسى، ودلنى على ما ينبغى أن أقرأمن الأدب الغربى»، ومن الطريف أن المدارس فى هذه السنوات كانت تنفح الطلّاب قدرا من الجنيهات، فكان المازنى يعطى نصفا للبيت، والنصف الآخر يشترى به الكتب، وكانت أمه تسأله عن النصف الخاص به، وأين أنفقه، فكان يقول لها: «يا أمى.. لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولى مؤونتى من المتنبى والشريف الرضى والأغانى وهازليت وتاكرى وديكنز وماكولى، ولاغنى بك عن سمنك وبصلك، ولا غنى بى عن هؤلاء؟!»، ويسرد المازنى بأسلوبه الطريف والرصين فى آن واحد رحلته مع الثقافة والكتاب، ويحكى واقعة اقتنائه الأغانى للأصفهانى، وقد اشتراه ورقا، دون غلاف، وكان يقرأ ويراجعه، ويضع بعض ملاحظاته وهوامشه على مايقرأ، وكان يكتب ذلك فى ورقة مستقلة، للدرجة التى زادت لتصنع كتابا تفسيريا ألصقه بالكتاب الآخر، لكنه فى عام 1917 تعرض لضائقة مالية، فباع مكتبته كلها، ومن بينها هوامشه وملاحظاته التى كان يلصقها بالكتب، وهكذا يكتب المازنى رحلته مع الكتابة والكتاب، لعله يكون واحدا من الذين استثناهم أحمد حسن الزيات من أنصار «أدب الساندويتش».