«للذكرى.. فإن الذكرى ناقوس (يدك) فى عالم النسيان» لو أتيح لمصور صحفى سريع الاستجابة، وفنان بالضرورة، أن يختطف لقطة لهذه العارية الفاتنة وهى تمضى بحصانها المطهم فى طريقها من ميدان التحرير إلى مبنى البرلمان، مرورا بسور المبنى القديم للجامعة الأمريكية، والذى لم تكن غطته لوحات «جرافيتى» شباب ثورة يناير، لظهر السور فى خلفية الصورة بلونه الكريمى المتناثرة عليه بضع عبارات شاردة لمارة عابرين، ولاختار المصور الفنان لقطة يكون فى صدارتها ذلك التكوين البارع لتلك العارية شفيفة العرى على ظهر حصانها السامى، دون أى إضافة تدل على المكان الذى يقتنصه المصور خلوا من المارة، بحيث تبدو الصورة كما لو كانت ملتقطة من منظور «حلم رائق»، من تلك الأحلام الملونة قوية الحضور كأنها حياة بديلة، وربما اختار من بين لقطات عديدة واحدة تظهر فيها على السور تلك العبارة التقليدية التى توقف أمامها أحد المهتمين بعلم النفس، وكانت تضحكه وتثير داخله نوازع التأمل للأخطاء الإملائية والتعبيرية التى يعتقد أنها مثل «فلتات اللسان»، تدل على أبعاد أعمق فى اللا شعور ويُظهرها الخطأ العفوى، فالعبارة المكتوبة على السور كانت: «للذكرى فإن الذكرى ناقوس يدك فى عالم النسيان». والفلتة التى رصدها صاحبنا هى كلمة «يدك» بدلا من «يدق» فى العبارة الأصلية، والتى رآها التعبير الأصوب فى الظروف التى أدت إلى الثورة، حيث كان مطلوبا من النواقيس أن لا تكتفى بأن «تدق» فى عالم النسيان، بل أن «تدك» هذا العالم! فى ذلك اليوم عبرت الأميرة ميدان التحرير دون أن يضرب العمى كل من رأوا جمالها العارى وهى تمتطى صهوة حصانها المطهم بالسرج المخملى الأحمر كما حدث لذلك «الزمار» الذى تلصص عليها من ثقب اصطنعه فى نافذته المغلقة، مخالفا رجاءاتها بأن يبقى كل سكان البلدة فى منازلهم ويغلقوا النوافذ، كلهم التزموا بما طلبت حبا لها وثقة فيها، إلا هذا الزمار الذى تحايل وتلصص فضرب العمى بصره. لم تكن أخذت عهدا على الناس فى ميدان التحرير كذلك الذى أخذته على مواطنى بلدتها، لأنها كانت قادمة طواعية وبتأثر شديد بعد مشاهدتها لمناظر المعتصمين على رصيف مجلس الشعب من عمال شركة الشوبارية الذين لم يتلقوا أجورهم منذ شهور تسعة، ومكثوا فى اعتصامهم أسابيع طويلة مريرة دون أن يصغى لشكواهم أحد، فخلعوا قمصانهم مهددين بخلع المزيد من ثيابهم كلما أمعن المسؤولون وأعضاء البرلمان فى تجاهلهم، وكان أكثر ما آلمها وأثَّر فيها هو هيئة الفانلات الفقيرة المنسولة والمثقبة والأجساد المنهكة للمعتصمين، وملامح اليأس العميق الذى رشحت به وجوههم. لأن قرارها بالمجىء إلى مصر كان سريعا ومفاجئا وعابرا للزمان والمكان، فإن لعنة العمى لم تصب أحدا ممن شاهدوها تمر فى طريقها إلى مجلس الشعب عارية بارعة الجمال فوق حصانها الملكى، لكنهم أصيبوا بشىء يشبه السحر جمدهم فى أماكنهم، بينما كل هذا الجمال الأسطورى يعبر أمام عيونهم المبهورة، ظن معظمهم أنه حلم يقظة، وخاف بعضهم أن يكون قد أصيب بالجنون ويمر بنوبة هلوسة بعد أن اختفت من ساحة بصره دون أن يستدل لها على اتجاه، فقد كانت تعبر الموجودين وهم فى جمود دون أن يتمكنوا حتى من تحريك عيونهم كأنهم مسحورون. كل من رأوها تمر أمامهم فى ميدان التحرير من راكبى السيارات والمشاة لم يتعرفوا عليها، حتى من كان مطلعا منهم على سيرتها الواقعية وأسطورتها، وتكرر الموقف وهى تعبر شارع قصر العينى فى الاتجاه المضاد، فلا يضطرب سيل السيارات، ولا تلحق بخطو حصانها أقدام المشاة، ثم دخلت بحصانها العالى شارع مجلس الشعب وتوجهت دون أن تترجل نحو البوابة الرئيسية، فهرع الحرس وأمن البوابة يفتحون الباب لها مؤدين تحية لا تؤدَّى إلا لرأس الدولة حين قدومه لافتتاح دورة البرلمان التالية لكل انتخابات برلمانية، فقد كان جمالها العارى وحصانها المطهم من الجلال والفخامة إلى درجة جعلت من شاهدوها فعليا يتصرفون كأنهم مسرنمون يمشون فى نومهم الحالم خارج الزمان والمكان، وبعيدا عن الدنيا التى ألفوها أو حتى تخيلوها. كانت الأميرة جوداييفا قادمة بالفعل من خارج الزمان والمكان من القرن الحادى عشر ومن إمارتها البعيدة غربى الأراضى الوسطى الإنجليزية، غير متبوعة بأى مراسم ولا مرافقين غير جمالها الباهر العارى فوق الحصان الأبيض المطهم وشعرها الخلاب الطويل الذى التف حول هذا الجمال، وخبأ حناياه، فتجلى جمالا نورانيا لأنثى بلا شائبة، امرأة شابة نادرة النبالة أشعَّت بطاقة تأثير شفافة رقيقة ومُجتاحة، جعلت من توقفوا أمامها من حرس البرلمان تنهمر عيونهم بدمع غزير، بلا صوت ولا حزن لكن بإجلال عجيب. ثم راحت عيونهم تتابعها بعد أن عبر الحصان البوابة الحديدية المفتوحة على اتساعها، وظلت هذه العيون الفياضة متعلقة بها بعد أن توقف بها الحصان فى صدر الساحة المواجهة للقبة التاريخية. كانت الأميرة المتواضعة بقوة الرقة تعرف قدرها العالى، وتعرف أنها ليست من يذهب إلى هؤلاء الذين قصدتهم تحت القبة، ولا حتى هؤلاء الذين يقبعون فى مجلس الوزراء فى المبنى الباذخ الذى أولته ظهرها. فقط، قبل أن تدلف من البوابة التى انفتحت لها عن آخرها، التفتت إلى هؤلاء النائمين على رصيف البرلمان منذ أسابيع طوال، ولوحت لهم بيدها الكريمة وأومأت برأسها النبيل طالبة منهم أن يتبعوها، فأقبلوا فى انشداه ثم انثالوا وراءها ذاهلين، حتى بدوا كأنهم ينداحون، طافين فى منطقة انعدام وزن عجيبة بينما هم على الأرض! *** رئيس الوزراء الذى كان يطل صدفة من نافذة مكتبه المواجه لقبة البرلمان رأى المشهد الخاطف للروح فتجمد مسحورا، لا يرى من الوجود إلا جميلة جميلات تمتطى حصانا لا تَخفى نفاسته، وهى على صهوته عارية عُريا لا يخدش الحياء ولا يثير الغرائز، فكان مستعدا أن يترك ليس مكتبه فقط بل موقعه المرموق وعالمه العام والخاص كله ليكون بالقرب من هذا البهاء، لكن إحساسا غامضا أنبأه أن هذه لا يتقدم منها أحد إلا عندما تطلب هى، فوقف ضائعا طافيا ما بين باركيه الأرضية المصقول اللامع وزخارف السقف الشاهق ناصع البياض، وظل طافيا ضائعا فى طفوه يرنو إلى الجميلة العارية ساحرة الجمال ويستعصى عليه فهم وجودها وانضمام هؤلاء المعتصمين المهلهلين إليها. ومن جوف مبنى البرلمان رأى أعضاءه يخرجون مثل سيل بطىء غليظ، مقتربين بوجل من العارية الخلابة فوق حصانها المتوقف فى شموخ، خالجه إحساس قوى بأنها سمحت لهم بالاقتراب لكن لمسافة لا يتجاوزونها، فقد كانوا يقتربون ببطء كئيب تزيده كآبة مناظر أجسام معظمهم الثقيلة، وسحنهم اللحيمة، وعيون النهم المصفوع الضيقة فى وجوههم والتى تنم عن كائنات دنيئة تأخذ بشراهة ولا تعطى. توقفوا عندما بدرت منها إيماءة امتعاض تبينها رئيس الوزراء من هزة خفيفة لرأسها النبيل، وتلاشى من المشهد فى أثر هذه الهزة، كأنما بسحر ساحر، نواب الرصاص والقمار والفتنة الطائفية والمخدرات الذين يعرفهم، فقد كان يتملقهم ويرضخ لمطالبهم كجزء «طبيعى» من جسم الفساد فى الدولة. جعله التفكير فى ذلك يشعر بندم أليم ينعى فيه نفسه كخبير رفيع الدرجات العلمية وابن أسرة عريقة، لم يزده المنصب الرفيع سوى وضاعة، وانهار فى بكاء حارق تهاوى معه جالسا على الأرض فتبدلت صورة البهاء الذى كان يطل عليه، صار مساحة بنية تماوجها الدموع، فأدرك أنه يجلس على الباركيه العارى لا السجادة النفيسة فى مكتبه، فانخرط فى بكاء أشد. على الأغلب لم يعرف كل من رأوها وتابعوها فى ذلك اليوم أنها الأميرة جوداييفا زوجة الأمير «ليوفريك» حاكم إمارة «كوفينترى» الواقعة غربى وسط إنجلترا فى القرن الحادى عشر، وهى صاحبة الواقعة التاريخية المدوية التى أغلظ فيها زوجها على رعايا إمارته بفرض ضرائب مُبالَغ فيها، تسحقهم، فارتجوه كثيرا وطويلا أن يخفف من هذه الضرائب لكنه لم يلتفت إليهم، فما كان منهم إلا أن توجهوا إلى زوجته الجميلة والمحبوبة التى يثقون فى طيبتها، طالبين أن تتوسط لدى زوجها الأمير، لعله ينظر إليهم بعين الرحمة، وعدتهم أن تبذل جهدها، لكن زوجها العنيد أبى أن يصغى لرجائها وتوسلاتها وتحبُّبها، ورفض أن يخفف العبء عن رعاياه، وحتى يؤكد أمام إلحاحها إصراره ويكفَّها عن تكرار الإلحاح، قال لها «لن أستجيب لما تطلبينه لهؤلاء الناس حتى لو سِرْتِ عارية على حصانك فى شوارع الإمارة». وفاته أن للجمال كبرياء وإرادة؟! الأميرة جوداييفا التى يعنى اسمها «عطية الرب» أو «هبة الله» طبقا للاسم فى الإنجليزية القديمة، أوعزت لأهل البلدة أن يلزموا بيوتهم فى اليوم التالى عند منتصف النهار وأن يغلقوا نوافذهم، وأمرت السُّياس أن يهيئوا حصانها للخروج ويتواروا مختفين فى غرفهم بعد أن يكونوا أغلقوا كل منافذها، وفى الظهيرة التى اختفى منها كل إنسان عداها امتطت الحصان المطهم عارية، لافَّةً عريها الفاتن بشعرها الطويل الغزير الجميل، وخطا بها حصانها الملكى يجوب شوارع البلدة الخالية على مهل. رصدتها عيون جواسيس زوجها الأمير فبلغه أمرها الصاعق وكاد يُجن غضبا، لكن هيهات أن تهزم إرادة امرأة جميلة نبيلة عجرفة أمير أو ملك حتى لو كان زوجها الذى تحبه. لم ترجع جوداييفا عن تحديها لعناده، وقررت أن تواصل ركوبها عارية تجوب ليس شوارع البلدة فقط بل تتخطاها إلى دروب الإمارة كلها، بل أكثر من ذلك ستطلب من الناس -إن تمادى زوجها فى عناده- أن يخرجوا من منازلهم لمشاهدتها وهى عارية تمر. ولم يكن أمام الأمير الغيور والمغرور إلا أن يتنازل عن عناده ويخفف الضرائب عن رعاياه لتوقف أميرته تحديها الصاعق. *** ظلت جوداييفا بعد ما أقدمت عليه أميرة قلوب الناس فى «كوفنترى»، لكنها إضافة إلى ذلك تُوِّجت ملكة الدنيا والتاريخ الحديث فى الاحتجاج ورفض المظالم بالتعرى، وظلت من مكمنها الأثيرى عبر مئات السنين تنظر بعين العطف والألم إلى احتجاجات المظلومين التى تئن بها الأرض، ويكون تعاطفها أحر ما يكون مع هؤلاء الذين يبلغ بهم اليأس أن يعترضوا على الظلم بتعرية أجسادهم، وكانت تأسى لنساء يعرين سر أسرارهن أمام رجالهن المتقهقرين فى الحرب حتى يعودوا إلى الميدان غيارى مُشتعلين فلا تقع زوجاتهم وأمهاتهم فى الأسر ولا الانتهاك، هكذا فعلت الفارسيات، ما دفع بالرجال إلى مطلق البسالة فى القتال فانتصروا بعد التقهقر، وكذلك كانت النساء العربيات يعرين نهودهن لرجالهن الخارجين إلى القتال حتى لا يتقاعسوا ويتركونهن سبايا للغاصبين. ولم تكن احتجاجات التعرى تخلو مما يجعل جوداييفا ملكة هذا النوع من الاحتجاج تسخر أو تضحك أو تتحير، فتيات يتعرين دفاعا عن «حقوق الدجاج» ضد محلات كنتاكى، وأخريات ضد «إبادة الديوك الرومية» فى أعياد الفصح، ومثلهن ضد دموية مصارعة الثيران فى كوبنهاجن ومدريد. أما ما جعل جوداييفا تخرج من ملاذها الأثيرى بعد قرون عشرة، فهو منظر العمال المعتصمين على رصيف البرلمان المصرى حين بلغ بهم اليأس درجة «الخروج من هدومهم»، وكان أول خروجهم من ثيابهم كاسرا لقلبها، فقد رأت فقر هذه الثياب وعرق أجسامهم المُتعَبة وملامحهم المخنوقة، وراعها ترْكَهم يسحقهم الضيق وتفريهم الضائقة دون أن يُصغى لأنينهم أحد ممن كانت فى أياديهم مقاليد أمور هذه البلاد والعباد، والفساد! *** على ظهر حصانها النفيس العالى فى ساحة البرلمان التى تُظاهرها القبة التاريخية، سكنت الأميرة جوداييفا بهية العُرى الشفيف وحولها هؤلاء العمال المقهورون الذين أدركت قبل أن تجىء إليهم أنهم لن يتعروا أكثر مما فعلوا، فبؤسهم الدفين كان أَمَرَّ من أن يكشفوا المزيد عن المستور منه. أخذت تحدق بثبات فى لمة البرلمانيين أمامها لاطمة بنظرات عينيها الساحرتين الغاضبتين وجوه من بدوا لها براميل وأشباه براميل، آملة أن يصيروا بشرا وينطقوا بالحق ويعدوا بممارسة قوة الضغط التى بحوزتهم ليحصل هؤلاء المسحوقون على حقوقهم التى تعيدهم إلى بيوتهم وأولادهم ونسائهم رجالا، أرباب بيوت يستطيعون إطعام ذويهم وستر عريهم وترميم السقوف المتهالكة فوق رؤوسهم وسد شقوق الحيطان. لكن البراميل ظلت براميل، وطال الصمت وطال الانتظار، حتى رن هاتف محمول فى جيب البرميل الأكبر فتحرك يتلقى المكالمة، ولم يكن هناك من صوت مسموع غير صوته يردد: « تمام يا افندم. تمام زيادتك. عايعصل. عايعصل»، كان حرف الحاء عنده مضروبا ويخرج من فمه عينا، والسين تخرج زايا، وهو ما تأكد عندما انتهت المكالمة وانشكح وجهه الدهنى اللحيم، شد عوده المنفوخ المتقاصر، وانتفخ مزيدا وملأ بالشهيق صدره الضيق فوق البطن الكبير، ووجه حديثه بدرجة مفاجئة من الثقة البليدة إلى الجمال الخاطف على ظهر الحصان المُطهَّم: «تعت أمر زيادتك. أى شكوى لعضرتك. وأى طلبات للعُصان؟» (تحت أمر سيادتك. أى شكوى لحضرتك. وأى طلبات للحصان؟). الأميرة جوداييفا التى جعلتها شرفتها الأثيرية فى اللا زمان واللا مكان تطل على العالم كله وتتعلم على امتداد ما يقارب عشرة قرون لغات البشرية كلها، ومنها العربية بلهجاتها العديدة، استغربت من طريقة كلام هذا الشخص الذى بدا أنه يشغل موقعا مرموقا تحت القبة التى خرج منها على رأس هذا الرهط. ظنته يمازحها هذا المزاح الغليظ الذى لا يمكن أن يصدر إلا من برميل بشرى مكتظ بالهُلام والسخام. لكنها عندما لمحت نظرة التملق فى عينيه الضيقتين وأثارت امتعاضها بقايا الخصلة التى صبغها ومدها وفردها ولزقها بنوع لامع من «الجل» لتدارى اتساع صلعته، أدركت أن هذا شخص أدنى من أن يسخر من أى أحد يعلوه، حتى لو كان عابر سبيل على ظهر حصان. وتجسم أمامها سؤاله الغريب عن «أى طلبات للحصان»! لم تكن هناك أى طلبات لحصانها ولا أى حصان آخر. كانت هناك مطالب لبشر أشباه عراة وجوعى لم يتقاضوا رواتب من الشركة التى يعملون بها منذ تسعة أشهر كاملة، وكانو مُهدَّدين بالطرد من هذه الشركة لمجرد أنهم عبروا عن شكواهم. مكثوا ينامون ويصحون فى العراء لأسابيع طويلة على رصيف البرلمان لعل نواب الشعب يصغون لأنينهم دون جدوى. ولما أوصلهم اليأس إلى حد خلع قمصانهم المهترئة التى كشفت عن فانلات أشد اهتراء على أجسادهم المتهالكة، جاءت تساندهم فتبعوها آملين، وها هو من يسألها عن «طلبات للحصان»! استدارت ملتفتة لتشير إلى من هم أولى بسماع مطالبهم من أى حصان، فارتدَّت إليها التفاتتها مبهوتة، وبرق فى عينيها الرائعتين استغراب صاعق... لم تجد حول حصانها هؤلاء الذين عبرت الزمان والمكان لتجىء إليهم، تلبى نداءات استغاثاتهم المخنوقة وتجبر رجاءاتهم الكسيرة، بشر لا يمكنهم حتى أن يُكملوا تعريهم احتجاجا، ليس بدافع تقاليد هذا البلد وحدها، ولكن لأن ملابسهم الداخلية وأجسادهم المهيضة، رغم امتلاء بعضها، كانت كلها مما يجعلهم على شفا الموت خجلا لو أنهم خلعوا بناطيلهم المهترئة بعد القمصان المنسولة. لقد اختفوا دون أن تحس باختفائهم كأنهم تبخروا أو أن قوة غامضة شفطتهم بلا ضجيج. أين ذهبوا؟ دارت الأميرة بوجهها الذى شحب ونظراتها المذهولة على وجوه من بقوا أمامها. براميل وأشباه براميل البرلمان. وجدتهم يبتسمون ثم تسرى بينهم قهقهة لم تلبث حتى تحولت إلى موجة عاتية من القهقهات الوقحة جعلت حصان عبور الأزمنة والأماكن يتراجع بظهره مجفلا.. يتراجع، يتراجع، يتراجع، حتى اصطدم بشىء تصاعد منه ضجيج أربكه وجعله يصطدم بالمزيد. حواجز حديدية متحركة مدهونة بالأسود والأحمر أوقعها تراجع الحصان الجافل فحدثت الضجة. وخلف صف الحواجز رأت الأميرة صفوفا كثيفة من مسلحين مدرعين بخوذات حديدية وثياب سوداء وبنادق لقذائف مجهولة. كانوا متأهبين تحت سور مبنى مجلس الوزراء الذى اعتلى القناصة سطحه وبرزوا من نوافذه. بينما كان الشارع الفسيح خاليا تماما، وتشتعل عند مفارقه البعيدة مطاردات حامية يلفها الغبار والغموض !